الرياض في كل عطلة تكون أجمل ما يكون، شوارع بلا سيارات، وإنارة مشتعلة كالحرائق، الناس بالرياض تفوح منهم رائحة الحنين إلى ذاكرة الأمس، والبعض تعبق منه رائحة الهيل والزعفران هي من بقايا الماضي، وأنا في شوارع الرياض أمشي بلا غاية بلا خطوط طول أو دوائر عرض، هائم أفتش عن نسيان لا أجده، فأيام مذابح الدم الفلسطيني حاضرة شاخصة لا تغيب، الدم الفلسطيني يسفك بلا رحمة من مغتصبي الأرض اليهود الذين يشعرون بالفخر والانتصار، اليهود يرقصون على قتل الأطفال، وعلى بكاء الأمهات، وعلى أشلاء القتلى، في هذه اللحظة العاصفة ونزف الحنين، قررت أن افتح المذيع لعلِّي أسمع خبراً انتظرته لأسابيع، خبر وقف الحرب النهائي على غزة لا هدنة الـ72 ساعة. ولارتباطي القديم بموجات الأثير أدرت مؤشر مذيع السيارة بغير إرادة على هيئة الإذاعة البريطانية (هنا لندن) التي كانت نافذة جيلي على العالم من حرب: أكتوبر رمضان 1973م ثم عام 75م الحرب الأهلية اللبنانية، ثم حرب الخليج الأولى العراقية الإيرانية 79م، ثم حادثة احتلال الحرم المكي عام 80م، وحصار بيروت عام 82م، وما تلا ذلك عام 90م احتلال وحرب تحرير الكويت، بعدها انفرطت سلسلة الأحداث والتقنية، حيث أصبحت الحروب منقولة على الهواء مباشرة عبر المحطات الفضائية التي احتلت سماءنا.
إذاعة هنا لندن لها مع الأجيال السابقة روابط وتربية إعلامية، روابط معرفية متينة لا تنقطع، فالخبر الذي أبحث عنه وقف الحرب النهائية على غزة لم يأت، ما جاء هو صوت فيروز: الو.. الو
كحلون ستي .. ستي يا ستي
اشتقت لك يا ستي
علي صوتك / صوتك بعيد
جاي من الكرم
جاي من التفاح
صوتك حامل شمس وفيّ
لون التين والزيتون
ايه وريحه الطيوب يا ستي.
الأغنية جاءت في مقدمة (برنامج صندوق النغم) الذي يبحث في الذاكرة العربية يعود بالذاكرة إلى الأربعينات الميلادية قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية حين كانت معظم الدول العربية تحت سياط الاستعمار الأوروبي قبل أن تتحرر.
كانت فيروز في مسرحية (ميس الريم) عام 1975م تحاول الاتصال بجدتها العجوز (الختيارة) في كحلون، عندها تذكرت الجدات والأمهات في فلسطين الكبرى، فالأمهات أكثر من تحمل الآم الحرب في غزة، والأمهات أكثر القتلى، أكثر من ذرف الدموع على الأطفال لأنّ أعلى الوفيات هي من الأطفال، فإسرائيل تتبع وبعمد إستراتيجية وعقيدة عسكرية هي استهداف الأطفال بهدف حرق قلوب الآباء والأمهات.
أمهات غزة أكثر من تعذّبن برحلة الهجرة الطويلة والشتات من أراضي 48م ثم من أراضي الضفة عام 67م حتى وصلوا مخيمات الشجاعية وجباليا والتفاح ومدارس الأمم المتحدة (الاونرواء)، حيث كان هناك تساقط الشهداء من الأطفال والأمهات.