تمعّن الفلاسفة الإغريق مرورًا بالفرنسيين بفكرة الجدل، وظهرت نظريات وآراء متعاكسة، إلا أنها كانت تتفق في جوهر الجدل كونه تحاور بين طرفين مختلفين قائم على أساس المنطق، بحثًا عن الاستدلال في مقاربة الواقع من خلال فرضيات مأخوذة من الواقع المعاش.
اليوم اختلفت فكرة الجدل، فصارت تعني الوقوف على الاختلافات الفكرية وتعارض الآراء بغية الوصول إلى فجوة خلاف أوسع، أيضًا الحالة النفسية التي تحكم الطرفين لم تعد كما كنا نقرأها عند الفلاسفة في الاختلاف مع الفكرة والرأي المطروح، إنما الاختلاف مع الشخص نفسه، ومحاولة البحث السلبي في نهج حياته أو حتى شكله، فمن الدارج مثلاً أن أجد شخصاً يختلف معي، لن يتحدث في فكرة الخلاف، إنما سيكون حديثه عن شكلي ووجهي أو البحث في عيوب يراها خُلقية، مع أن أي عيوب في شكل الشخص هي لا تخصه إنما هي من صنع الخالق -عز وجل- لذا فإن الاعتراض هنا يكون على الخالق لا المخلوق، العيوب الحقيقية هي عيوب الفكر الجاهل، واستخدام الأساليب اللا أخلاقية واللا إنسانية في التعامل مع المخالف.
يتضح لي في قراءة عابرة للمجتمعات العربية بشكل عام، والمجتمع السعودي بشكل خاص، هو الفهم المنقوص لفكرة الاختلاف، فمن النادر أن نجد في هذه المجتمعات التي استمرأت العنف اللفظي بل وحتى الجسدي، صاحب رأي يريد فعلاً أن يتقدم ويطرح وجهة نظره ويعرض رأيه وهو قائم على أركان الاختلاف المنطقية، ولا يُمكن أن ننسى فعل الأحزاب السياسية «الإسلامية» التي أفسدت أخلاق المجتمعات الإسلامية وأبعدتهم عن التعامل بأبجديات أخلاق الجدل والاختلاف، حتى إنه في واقعنا اليوم أجد أنه تم نسف كل نظريات الجدل «المحمود» وتحول إلى نقاش عقيم، بل صار الشخص الذي يُلقب بأنه مثير للجدل بأنه مترادف للمشاكل، وهذا في الفلسفة الجدلية لا ينطبق على كل شروح أفكار الفلاسفة على مدى كل العصور.
في العالم العربي، هناك شيء ما لا يُمكن إنكاره، وكل يوم يزداد ويتكاثر بفعل الأحزاب المؤدلجة التي باتت تنهش فيما تبقى في مجتمعاتنا من عقول، وهو الحملة القوية والعنيفة على «التنوير» بل وصلنا إلى حد أن يشتمك أحدهم بكلمة «تنويري» فالنور هو وجع أهل الظلام وأصحاب السراديب السوداء التي تلعن البياض، هذه المساحة هي التي تفتح الآفاق وتفضح أهداف الحزبية البغيضة التي أنتشت خصوصًا بعد الربيع العربي، وانتفشت ولم تقوَ على قبول الواقع بأنها فقاعة وانتهت.
نعم انتهت.. إلا أن عقباتها لن تنتهي بسهولة، والوقوف بقوة وصرامة في إيضاح الحقائق السياسية والدينية هما طريق الحقيقة لطمس براثن الجهل والحد من تفشيه، والعودة إلى الفلسفة والفكر لمحاربة هذه الظواهر وتأسيس فكرة الجدل من جديد، لأن الإصلاح لا يمكن أن يبدأ إلا بإصلاح المنظومة الفكرية المجتمعية بتأسيس منهج يبدأ من المدرسة، فينمو في مدرسة الحياة.