اجتمع النص الشرعي مع العقل الصحيح والمنطق الصريح، على أنّ أصول التشريع ثلاثة هي البراءة الأصلية والقرآن والسنّة. وقد أقر المسلمون قاطبة في كل زمان ومكان بقبول هذه الأصول التشريعية الثلاثة، إلاّ أنّ هذا القبول قبول نظري ودعوى لا حقيقة له تطبيقياً في غالب الأحوال. فقد هُجرت البراءة الأصلية بالكلية تقريباً في باب المعاملات. وتُعدي عليها كثيراً في باب العبادات. وتُؤولت دلالة الثابت القطعي من الوحي، وشُكك في قطعي الدلالة من النصوص من الأجل الانتصار للمذاهب وإرضاء لهوى النفوس.
والبراءة الأصلية أعلى الأصول التشريعية في مرتبتها الاستدلالية. فهي الأصل في التشريع ابتداء، وهي المرجع بعده انتهاء. والبراءة الأصلية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة. والبراءة الأصلية أبسط الأصول التشريعية فهماً وأقلها نصاً، فهي لا تتعدى جملة واحدة وهي أنّ «الأصل في العبادات المنع والأصل في المعاملات الحل» وقد تعدى على هذا الأصل المبتدعة من الفرق الإسلامية، فأحدثوا عبادات لم يأمر بها الشرع. وقد تعدى على هذا الأصل غالب الأمة وتنافس فقهاؤها -إلا من رحم الله - على التعدي عليه، فحرموا على عباد الله ما لم يحرمه الشرع مما عفا الله عنه، افتياتاً على قدر الربوبية!!! فما قدروها حق قدرها، ووالله ما قدر الله حق قدره من حرم ما لم يحرمه الله. أيظنون أنّ هذا تورع وصلاح!! أفلا يقرؤن القرآن، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، وقال: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، وقال: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمَْ}، فما نزل في التحريم من وعيد وتهديد أكثر بكثير مما نزل في التحليل. ولعل الله أراد بذلك أن يقيم الحجة على عباده، وقد علم نزعة العباد في التقوّل على الله بغير سلطان وبينة.
والنزعة للتحريم والتشديد هي من خصال معشر يهود، فأرسل الله رسوله ليُحل لنا ما حرم اليهود والمشركين بغير حق وبرهان من الله مبين. قال تعالى في وصف رسالة نبيه: «وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ».
وأوسع باب تأول المسلمون فيه التحريم هو باب سد الذرائع. فجعله بعضهم أصلاً من أصول التشريع. وهو أصل ولكنه تابع لا مستقل. فهو أصل تابع لأعظم أصل وهو أصل البراءة الأصلية. فكل ما جاء من استدلالات في سد الذرائع، إنما جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ورسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وما جاء عن رسول الله لم يكن في التحريم فقط بل في التحليل والعفو. فكما روى البخاري في صحيحه عليه السلام «لولا أنّ قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم ..» الحديث. وكما جاء في الترمذي عنه عليه السلام «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه».
وما حرمه عليه السلام سداً لذريعة الحرام البين واضح بيّن. وماكان لورع يقدر الله حق قدره، أن يترقي مرتقى النبوة فيحرم أصلاً حلالاً بحجة سد الذرائع. ولكن الفقه الصحيح هو إرجاع الحلال إلى أصله بالحلية على البراءة الأصلية لزوال ذريعة التحريم، متبعين بذلك فهم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطريقة الخلفاء الراشدين والفاروق عبقري هذه الأمة. فكم من أمر واضح بيّن في القرآن والسنّة أوقف الفاروق العمل به. وما كان للفاروق أن يتألى على الله. فلم يُوقف رضي الله عنه إلاّ ما كان أمر سببه ذريعة زال سببها.
فالصحيح أنّ زوال الذرائع هو أصل تابع من أصول التشريع. فتحليل حرام جاء بالوحي سداً للذريعة ليس اختلاقاً لحكم جديد، بل هو إرجاع حكم الوحي لأصل حكم الوحي بالبراءة الأصلية. وأما تحريم حلال فهو اختلاق جديد لحكم شرعي لا أصل له.
والموضوع يطول ولكن لو لم يكن إلاّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لكفى. فكيف وقد جاءت الآيات صريحة في الوعيد والتهديد والذم لمن يحرم ما لم يحرمه الله. فالله المستعان