نعيش مرحلة من الفوضى والدمار غير مسبوقة في منطقتنا، فالجميع يحمل السلاح ويتمترس خلف رؤى مذهبية ضيقة يقاتل إخوانا له في الدين والعرق. والوضع ينبئ بما هو أسوأ وأعنف.. فكيف وصلنا لما وصلنا إليه؟ وكيف أضعنا كل علامات وحدتنا الأساسية وحشرنا أنفسنا في زاوية ضيقة لتفرقنا؟
وكيف يمكن لدولة كإيران أن تخلق كل هذه الفوضى بيننا بينما تبقى هي بمنأى عن هذه الفوضى؟ في تصور الكاتب أن هذه المرحلة ليست إلا نتيجة لضياع هوية المنطقة العربية نتيجة لمتاجرة بعض أنظمة المنطقة بهويات شعوبها بخلق تناقض كبير بين هويتها الدينية وهويتها القومية وما لحق ذلك من تذويب لهوية المواطن العربي في طروحات مذهبية ضبابية.
فاليهود مثلاً من وجهة نظر عبرانية ينظرون لأنفسهم على أنهم شعب الله المختار، بل إن اليهودي يرى أنه ابن الله وسائر الخلق مسخرين لخدمته، وهذا معتقد راسخ لديهم، لكنهم لا يخرجون اليهودي غير المتدين من الملة اليهودية، واليهودي في نظرهم من كانت أمه يهودية وهذا نظرة قومية مغرقة في التطرف، بل إن بعض العلماء اليهود خرجوا -مؤخراً- بنظرية مفادها أن هناك جينات عرقية في دم اليهود تعود بهم إلى جدهم إبراهيم من زوجته سارة، فالديانة اليهودية بقيت متماسة طيلة قرون الشتات لأنها بنيت على حس قومي قوي.
وإسرائيل أقيمت على أرض عربية ذات هوية قومية واضحة لغةً وشعباً وربما عرقًا أيضاً، فالعرب قبائل هاجرت أساساً من اليمن، وهناك احتمال كبير أن يكون أصل اليهود الأشكناز (الشرقيين) من أتباع موسى الحقيقيين عربا أيضًا، عربًا تمسكوا بيهوديتهم ولم يسلموا، أما السفارديين (اليهود الغربيين) فهم خليط من الشعوب الأوربية التي اتخذت اليهودية قومية لها وكان ارتباط كثير منهم باليهودية حديث نسبياً ولاعتبارات مصلحية. ولذا توجه المشروع الصهيوني بالتحديد لضرب الهوية القومية العربية، وهو مشروع تشاركت فيه مع الاستعمار الغربي الذي وجه معظم بحوثه الأنثربولجية والاستشراقية للتشكيك في الهوية القومية العربية عبر بحث الاختلافات العرقية واللغوية التي تفرق العرب.
ووجد الغرب العصا السحرية في استدامة الخلافات العربية في خلق فجوة بين الهويتين العربية والإسلامية بعد أن استنهض عاطفة المسلمين السنة فقط لقتال الشيوعية مثلما استنهض الكاثوليكية في أمريكا الجنوبية، والبوذية في شرق آسيا لغرض ذاته. وتم تذويب الهوية العربية في هوية أوسع وأكثر غموضاً بحيث أصبحت أهمية قندهار توازي أهمية القدس، وصنعاء، وبغداد، ودمشق. وظهرت تيارات دينية متعصبة تعتبر القومية العربية حركة عنصرية وكفراً يتناقض مع توجه الإسلام العالمي. وبعد أن كان كثير من الصوماليين، والأمازيغ، والكرد يصرون مفتخرين على أنه من أصل عربي، أصبح بعض العرب يتنصل من عروبته. ولعبت بعض الأحزاب القومية العربية التي كان معظمها ذات طابع عسكري، دوراً لا تشكر عليه في تشويه الفكر القومي وفي تنفير الجماهير العربية من حسها العروبي.
وبعد أن تلاعبت المخابرات المختلفة بأصابع الجهاد، وعم العنف أرجاء العالمين الإسلامي والعربي، وطال مناطق خارجها، تم التلاعب ببعض الفصائل الإسلامية التي أدمنت العنف، وكان الإعلام الغربي الذي له مهمة مقدسة دينية وسياسية وإستراتيجية لدعم وحماية إسرائيل يلصق بالعرب والأمة العربية كل الجرائم التي ترتكب باسم الجهاد الإسلامي، فهناك فصل بين الإسلام والقومية في الداخل العربي، وهناك ربط قوي بينهما في الإعلام الغربي في الخارج، فكل ما يحدث في منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، أو الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل إيران وباكستان وحتى أجزاء من أفريقيا، كل ما يحدث في هذه المنطقة الشاسعة من جرائم ينسب عبر الإيحاء الإعلامي للعرب وليس للمسلمين، حتى ما يرتكبه الهنود والباكستانيون، أو الشيشان ينسب للعرب، وذلك لسبب واحد وهو أن لغة الإسلام هي اللغة العربية، ومن يقتلون ويكبرون ويهللون يهللون ويكبرون بالعربية، فالعربية التي نفتخر بكونها لغة الإسلام هي ذاتها التي نسبت جزءاً كبيراً من التطرف في الإسلام على العرب. فأسماء الإرهابيين والمخربين التي تردد في الإعلام المعولم بما فيها الأسماء الحركية عربية: أبو قتادة، أبو البراء، أبو بكر البغدادي، بوكو حرام، حركة الشباب... إلخ، وهم إما عرباً أو خضعوا لتعليم عربي إسلامي، وتدريجيًا أصبحت الهوية العربية هوية إرهابية بامتياز، بل وصل الأمر ببعض الحكومات الإسلامية التي تغذي الإرهابيين والميلشيات الإرهابية كإيران أن تنسب الإرهاب للعرب وتطلق على ميلشياتها هي أسماء عربية: جيش بدر، عصائب الحق... إلخ، والغريب أن إيران التي أصمت آذان العالم بالشكاوى من الإرهاب لم يسبق أن تعرضت لعمل إرهابي واحد قط، ولم يسبق أن شاركت في الجهاد الدولي الإسلامي!!
عدم إدراك هذه الحقيقة المروعة، والسذاجة السياسية التي دفعت بعض الأنظمة العربية للمبالغة بوصف مواقفها من شعوبها بأنها محاربة لإرهاب داخلي أو وصم بعضها البعض الآخر بالإرهاب فاقم هذه المأساة. واليوم فقط ندرك حجم الارتباك الدمار الذي أفضى بنا إليه هذا الخلط وما أدى إليه من بروز للطائفية الدينية التي هي ليست إلا هوية دينية صغرى ضمن الهوية الدينية الكبرى. فالانتماء الطائفي هو في نهاية المطاف نتيجة طبيعية لربط الهوية بالدين فقط. ولا أحد بالطبع يقلل من أهمية الدين، والأمة العربية حتى في زمن فورة الرومانسية القومية في بداية القرن لم تعادِ الإسلام بل كانت على العكس من ذلك تنظر للإسلام من زاوية ارتباطه التاريخي بالهوية العربية، فهو مصدر فخرها ورافد حضارتها الأول، فالله «جلّ وعلا» أكد على هذا الارتباط في أكثر من موقع في القرآن الكريم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ...(113)} طه، وفي قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)} الزخرف، وقال جلّ شأنه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)} يوسف. هذه الآيات الكريمة عقلها الجميع من غيرنا ولم نعقلها نحن. حتى المسيحيون العرب أدركوا هذا الارتباط وكانوا يقرءون القرآن ليتعلموا العربية، ويحترموا الإسلام.
ولم تذب الهوية العربية في الدين في عصر الرسول والصحابة، أي عصور أوج الحضارة الإسلامية التي يتفاخر بها الجميع بما فيهم المتطرفون، وتذكر الروايات في عصور الدولة الإسلامية أن الخلفاء كانوا يرسلون أبناءهم لمخالطة الأعراب؛ حفاظاً على عربيتهم وعروبتهم. نعم، خير البرية عليه أفضل الصلاة والتسليم قال إن «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، وهذا عين العقل. ولكن ذلك على سبيل المساواة الإنسانية لا الخلط العرقي، فالرسول «صلى الله عليه وسلم»، قال أيضاً: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم». والرسول خاطب الفارسي بالفارسي والرومي بالرومي. واليوم ذوبت الهوية القومية العربية وميعت بحجج واهية لا تمت للإسلام بصلة، روج لها الإخوان المسلمون بالدرجة الأولى بدعم من الاستعمارين البريطاني والفرنسي. وتذكر كتب التاريخ أن نابليون كان يجالس المشايخ في مجلس شيخ الأزهر المراغي، ويأمر بإقامة الأعياد الإسلامية ويحضرها حتى قيل عنه إنه أسلم سرا، ولكنه كان يعتبر المصريين مصريين وليسوا عرباً، وبريطانيا خلقت الجامعة العربية لتضمن عدم عودة تركيا لحكم العرب، ولكنها بالمقابل دعمت خديوي مصر ليعلن نفسه خليفة للمسلمين، ثم خلقت حركة الإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية لضرب التطلعات القومية العربية.
أما إيران فربطت مذهبها بهويتها القومية، وأصبحت تتصرف في العالم الإسلامي كما لو أن القرآن نزل بلسان فارسي مبين، حتى أن بعض ملالي إيران أخذوا تدريجياً بالادعاء بأن لهم نسباً قرشياً، وهم يُلبِسون الملالي الذين يدعون لهم أصلاً هاشمياً عمامة سوداء لتمييزهم، وكأنما النسب الهاشمي كان شركة لصنع العمائم!
فهل يعقل أن يحارب عربي أخاه العربي لأجل قوة خارجية، وهل يعقل أن توجه ميلشيات مسلحة نيرانها لمسلمين مثلها بدلاً من أن توجهها للغاصب الحقيقي لأرضها وهويتها؟ وهل يعقل أن تكون غالبية الانتحاريين ممن فجروا أنفسهم في سوريا والعراق، 1201 حسب بعض الإحصاءات، فلسطينيين؟ وهل يعقل أن تكون لدينا جماعات، مذهبية سواء شيعية أو سنية، ولاؤها غير مرتبط بمنطقتنا ولا قوميتنا كالإخوان المسلمين، وحزب الله، والحركات الإرهابية الأخرى كداعش والقاعدة؟