الإسلام هذّب المرأة وعلمها، فعرفت مكانها كأم وزوجة، بقناعة ودراية، وطبقت ذلك عملا محتسبة ذلك لله أجرا، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت أمّا مربية، وزوجة صالحة، وصارت تضفى على البيت الأسري ما ذكره الله في كتابه الكريم: المودة والرحمة، وصارت للزوج سكنا تزيل الهمّ كما تضفي السعادة،
وهذه من نعمة الله وآياته: والنماذج من نساء الإسلام كثيرة، ويكفي أن أورد مثالين فقط فيهما متعة وعبرة لتأخذ المرأة المسلمة من ذلك القدوة الحسنة.
- ذكر ابن عساكر أن شريحاً القاضي كان في مجلس قضائه يوما، إذ أقبل فتى وشيخ يختصمان إليه، قال: فكلما تكلم الشيخ بكلمة، أفلج عليه الفتى في حجته، فأغاظ ذلك شريحاً فقال للفتى: اسكت، فقال: لا والله يا قاضي، مالك أن تسكتني، قال: لأنك فتى وهذا شيخ، قال: يا قاضي، وما تنقم على قوم أثنى الله عليهم، في القرآن، فقال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (13 سورة الكهف)، وقال عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (60 سورة الأنبياء)، وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (60 سورة الكهف)، ولولا أنه فتى صدق ما صحبه موسى، فتذكر شريح قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اختاروا لنطفكم وتمنى ولداً بمثل ذكائه.
ثم قال شريح: يا فتى أنت قاض؟ تعال اقعد مكاني، قال: لا والله، مالي ذلك، دون أن أطعم قصعتك وأستوفي منّتك قال: ثم استنطقته، فإذا بفتى كامل العقل، وضيء الوجه، فقال شريح في نفسه: لوددت أن لهذا الفتى أختاً فأتزوجها، قال: لو تمنيت الجنة كان أفضل، قال: وفي يوم أقبلت فيه مظهراً -أي وقت الظهيرة- من جنازة، فأصابني الحرّ، ورأيت سقيفة، فقلت: لو عدلت إلى هذه السقيفة، فاستظللت، واستقيت ماء، فلما صرت إلى السقيفة، إذا باب دار، وإذا بامرأة نَصَف قاعدة، خلفها جارية شابة رَود، عليها ذؤابة قد تسترت بها، قال: قلت: اسقوني ماء، قالت يا عبدالله أي الشراب أعجب إليك: النبيذ أم اللبن أم الماء؟، قلت: أي ذلك تيسر عليكم، قالت: اسقوا الرجل لبنا، فإني أخاله أعرابيا، قال: فلما أن شربت، وحمدت الله قلت لها: من الجارية خلفك، قال: ابنتي، قلت: ومن هي؟، قلت: زينب بنت حدير، قلت: ممن؟ قالت: من نساء بني تميم، قلت: من أيها؟ قالت: من بني حنظلة، ثم من بني طهية.
قال شريح: قلت لها: أفارغة أم مشغولة؟ قالت: لا بل فارغة، قلت: تزوجينها؟، قالت: نعم إن كنت كفؤاً لها، قلت: فمن يلي أمرها؟، قالت: عمّها،؟ قال: فانصرفت إلى منزلي، فامتنعت من القائلة، فأرسلت إلى إخواني من القراء الأشراف: مسروق بن الأجدع، وسليمان ابن نجية، والحجاج بن عرفطة، فتوافينا عند عمها العصر، فقال لي عمها: يا أبا أمية ألك حاجة؟، قلت: إليك عمدت، قال: فيم ذلك؟ قال: جئت خاطبا، قال: من؟، قلت: زينت بنت حدير، قال: ما بها عنك رغبة ولا تقصير، فحمدت الله، وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت حاجتي، فحمد الله وصلى الله عليه وسلم وزوجني.
فو الله ما بلغت منزلي حتى ندمت، قلت: ما صنعت، تزوجتُ امرأة من بني طهية، من حي جفاة فأردت أن أفارقها، ثم قلت: سقطتين في يوم واحد، لا، ولكنني أجمعها إليّ، فإن رأيت الذي أحب، وإلا كنت قادرا، وبعد ذلك أفارقها.
فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها، فزفّت إلي مع نساء أتراب لها، فلما أن صارت بالباب قالت: السلام عليكم ورحمة الله، وأقبلن النساء ينخسنها، ويقلن لها: هذا منك جفاء، قالت: سبحان الله السلام والبركة فيه جفاء، فلما أن توسطت البيت قالت: يا قاضي، موضع مسجد البيت، فإن من السُّنة إذا دخلت المرأة على الرجل، أن يقوم فيصلي ركعتين، وتصلي خلفه ركعتين، ويسألان الله خير ليلتهما تلك، ويتعوذان بالله من شرها، قال: قلت: خير وربّ الكعبة، فقمت أصلي، فإذا هي خلفي تصلي، فلما أن سلّمت وثبت وثبة، فإذا هي في قبتها، وسط فراشها قاعدة، قال: ودخلت إليها، فوضعت يدي على ناصيتها، ودعوت لها بالبركة، قالت: نعم فبارك الله لك ولنا معك، قال: فأردت ما يريد الرجل، فقالت لي: هيه هيه، على رسلك، على حاجتك ما قدرت، الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي الله على محمد، أما بعد: فإني امرأة غريبة، لم أنشأ معك، وما سرت مسيرا أشد عليّ من هذا المسير، وذلك أني لا أعرف أخلاقك، فأخبرني بأخلاقك التي تحب أن أكون معها، وأخلاقك التي تكره حتى أزدجر عنها؟ أقول قولي هذا، ويغفر الله لي ولك، قال: فاستطرت فرحا، ثم قلت: أما بعد: قدمت خير مقدم، على أهل دار زوجك، سيد رجالهم، وأنت -إن شاء الله- سيدة نسائهم، أنا أحب من الأخلاق كذا وكذا، وأكره من الأخلاق كذا.. قالت: حدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟، قلت لها: إني رجل قاض، ما أحب أن يكثروا فيملوني، ولا يطيلوا فيهجروني، قالت: وفقك الله.
قالت: فبت بأنعم ليلة باتها عروس، ثم الليلة الأخرى أنعم منها، فليس من ليلة إلا وأنا أنعم من صاحبتها حتى إذا كان بعد سبع قالت لأمها، يا أماه انصرفي إلى منزلك، ولا تأتيني إلى حول قابل، في هذا الأوان، ولا تتركيني من الهدايا، قال شريح: فكان الرسول يجيء بالأطباق الملأ، ويأخذ الفارغ، شبه الطير الخاطف، حتى إذا كان رأس الحول أتتها أمها، وقد ولدت غلاما، وكان شريح رجلا غيورا فإذا بامرأة تأمر وتنهي في بيته، فقال: يا زينب من هذه المرأة؟ قالت له: هذه ختنك فلانة أمي، قال شريح: سبحان الله قد آن لك، قالت العجوز: يا أبا أمية كيف ترى زوجتك؟، قلت: بالخير، قالت: يا أبا أمية إن الرجال لم يبتلوا بشيء مثل الخرقة الوراء، ولا تكون المرأة عند زوجها بأسوأ حال منها في حاليه: إذا حظيت عند زوجها، أو ولدت له غلاماً، فإن رابك من أهلك شيء، فالسوط، قال لها: قد كفيت الرياضة، وأحسنت الأدب، أنا أشهد أنها ابنتك، قالت العجوز: يا أبا أمية، أخوها بالباب يطلب الإذن عليها، تأذن له؟، قال: إي والله، فليدخل.
فلما دخل إذا أنا بالفتى الذي كان يخاصم الشيخ، فقلت له: وإنك لهو؟ قال: نعم، قال شريح له: فإني قد تمنيت أن تكون أخت لك عندي، قال الفتى: يا قاضي، فإن الذي أعطاك مُناك قادر أن يعطيكها في الآخرة.
ثم إن القاضي ضم الفتى، ونحله ذهبا، ثم قال: أرشد الله أمركم، ووفقكم لحظكم.. ومضى.
قال شريح: فلبثت معي عشرين سنة، وما بكتُّ عليها، في تلك السنين -البكت التقريع كما في القاموس- إلا يوما واحدا كنت لها ظالما أيضا، قالوا له: وكيف؟. قال: كنت إمام قومي، وصليت ركعتي الفجر، وسمعت الإقامة، فبادرت فأبصرت عقربا، فكرهت أن أضربها، فتنضح عليّ منها، فأكفيت عليها الإناء، ثم قلت لها: يا زينب، لا تعجلي بتحريك الإناء حتى أقبل، فأقبلتُ فإذا هي تتلوى، قلت: ما لك؟، قالت: ضربتني العقرب، قال: أو لم أنهك؟، هكذا من خالف؟. لي في هذا عظة وعبرة، قال: فلو رأيتني يا شعبى، وأنا أمغث إصبعها بالماء والملح، وأقرأ عليها بفاتحة الكتاب والمعوذتين -المغث كما جاء في القاموس المرس والدعك، قال شريح للشعبي الذي كان يقص عليه الحكاية، وكان لي جار من كندة يقال له ميسرة بن عدي، لا يزال يقرع مرية له، وذلك حين يقول:
رأيت رجالا يضربون نساءهم
فشلت يميني يوم أضرب زينبا.
[تاريخ دمشق لابن عساكر 23: 165-168].
- ونموذج آخر في بنت سعيد بن المسيب، وتزويجها على درهمين، ذكرها الذهبي في كتابه السير: قال أبو بكر بن أبي داود: كانت بنت سعيد بن المسيب، قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبدالملك عليه، حتى ضربه مئة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، ثم قال حدثني أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، بالسند إلى ابن أبي وداعة كثيراً قال كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياما، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟، قال: أنا فقلت: وتفعل؟، قال: نعم، ثم تحمّد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين، أو قال: ثلاثة، فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر فيمن أستدين.
فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائما، فقدّمت عشائي أفطر، وكان خبزاً، وزيتاً، فإذا بابي يُقرع، فقلت: من هذا؟، فقال: سعيد: ففكرت في كل من اسمه سعيد، إلا ابن المسيب، فإنه لم يُرَ أربعين سنة، إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إليّ فآتيك؟
قال: لا.. فأنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلا عزبا، فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك.. فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها، فدفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج، لكي لا تراها.. وما فيها من طعام ثم صعدت إلى السطح، فرميت الجيران، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام، إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، وترتاح ويزول عنها هم الموقف المفاجئ، لحرصها على طاعة والدها.
فأقمت ثلاثا، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس، لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، ولما أردت الخروج بعد أسبوع، قالت: إلى أين؟ قلت، للدرس في حلقة سعيد..: قالت: أجلس أعلمك فقه سعيد، فكانت حافظة عالمة.
فمكثت شهراً لا آتي سعيداً، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت عليه، فردّ علي السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم.
وفي رواية عمرو بن عاصم، جاء: إن سعيداً لما زوجها للشاب، قال لها لما أمست: شدي عليك ثيابك، واتبعيني، ففعلت.. ثم قال: صلي ركعتين، فصلت، ثم أرسل زوجها، فوضع يده في يديها، وقال: انطلق بها، فذهب بها إلى بيته، فلما رأتها أمه قالت: من هذه؟ قال: امرأتي، زوجني سعيد بن المسيب بنته، قالت: وجهي من وجهك حرام إن أفضيت إليها، حتى أصنع بها صالح ما يصنع بنساء قريش، فأصلحتها ثم دخل بها. [سير أعلام النبلاء للذهبي 4: 233-234].
إن كل فتاة مقبلة على الزواج في حاجة إلى أن تعرف مثل هذه المواقف، لتدرك حق الزوجية التي تسعد بها في حياتها، وتسعد زوجها، لتنتظم حياتهما في هناءة عيش، ومودة بين القلوب، وأن كل أم يهمها سعادة ابنتها، عليها أن تربيها التربية الإسلامية، وأن تحرص على وصيتها بما فيه الخير لها، والسعادة لبيتها، كما قالت أمامة بنت الحارث، لابنتها أم إياس بنت عوف لما زفت إلى زوجها الحارث بن عمرو ملك كنده، وهي من خير ما تُوصَى به الزوجة، حتى تستقيم عيشتها مع زوجها قالت: أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب، تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلّفت العش الذي فيه درجت، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبا، فكوني له أمة يكن لك عبداً وشيكاً.
يا بنية احفظي عني عشر خصال، تكن لك ذخرا وذكرا.
1 - الصحبة بالقناعة.
2 - والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.
3 - والتعهد لموقع عينه.
4 - والتعهد لوقت طعامه.
5 - والاحتفاظ ببيته وماله.
6 - ولا تفشي له سراً.
7 - والهدوء عند منامه فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
8 - والتفقد لموضع أنفه.. فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود.
9 - والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال حسن تقدير، والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير.
10 - ولا تعصي له أمرا.. فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي ذلك الفرح إن كان ترحا، والاكتئاب عنده إن كان فرحا، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظاما، يكن أشد ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك.
[طرائف النثر الجاهلي ص398].