أربعة مصطلحات مختلفة الدلائل والمعاني واللوازم والمستلزمات، يُخلط بينهم بالشبه كثيراً وبالقصد أحياناً. فالزكاة والضرائب والمكوس والخراج مُصطلحات تجتمع في معناها الواسع الذي يحمل معنى قيام من يمثل سلطة الدولة لجباية الأموال من عامة أفراد المجتمع، مقابل انتماء الأفراد للمجتمع المحكوم من قِبل هذه الدولة. وهذه المصطلحات على اجتماعها في عموم المعنى، إلاّ أنها تتفرّق في جوهر حقائقها، وفي أغراضها ومقاصدها. ولكن هذا الافتراق، لا يمنع أن يلتقي بعضها مع بعض في جزئيات الأغراض أو المقاصد.
فجوهر معنى الزكاة العام هو حق الفقير في مال الغني، لذا فهي نسبة ثابتة لا تتزايد مع تزايد النمو والغنى. وبهذا فهي تختلف جوهرياً عن جوهر فكر الضريبة. ففكر الضريبة قائم على أساس مفهوم تسديد كلفة الخدمات العامة من المستفيد منها، بمبدأ النسبة والتناسب. لذا فالضرائب تزداد مع زيادة الدخل. لأنّ كل من ازداد دخله، زاد استخدام موارد دخله للخدمات العامة، بطريق مباشرة أو غير مباشرة. وتلتقي الزكاة مع الضرائب في أنّ كليهما يتحوّط بأن لا يُسبب جبايتها خللاً باقتصاد السوق، فيتضرر المجتمع كله، ومنه الغني والفقير، والمنتج والدولة. (والتحوط في الزكاة يكون بإعجاز نص الشارع، لا بافتيات فقيه عقلاني).
والخراج نوع من أنواع الضرائب، وقد اجتمعت الزكاة والخراج على مالكي الأرض الخراجية من المسلمين، وبهذا قال غالب الفقهاء. وقد خرجوها تخريجاً جميلاً إلاّ أنه في الواقع غير صحيح. فقالوا إنّ الخراج على الأرض، بينما الزكاة على الغلة. والصحيح أنّ الخراج ليس بحكم شرعي أصلاً، بل قرار إداري عبقري من الفاروق. وقد خالفه وغاضبه مجموعة من كبار الصحابة منهم بلالٌ وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين. وقد يقال، بل هو شرعي لأنه بديل عن حكم شرعي وهو حكم الأنفال والغنائم في الأراضي المفتوحة عنوة. وهذا أيضاً غير صحيح. فالشيء إذا أصبح بديلاً عن الشيء، حتى يلغي الثاني الأول ويحل محله، فهذا هو النسخ. ولا ينسخ الوحي إلاً وحي مثله، وقرار الفاروق قرار بشري وليس بوحي. والأنفال من الوسائل يزول حكمها بزوال ذريعتها.
وأما المكوس فهي أموال يأخذها الظلمة من الحكام لصرفها على أمورهم الخاصة، وهي تلتقي مع الزكاة والضرائب والخراج إذا ما أُسيء استخدام أي منها.
فلا يصلح شرعاً ولا عقلاً خلط حكم الضريبة بالمكوس ولا الزكاة بالضرائب وتنزيل بعض أحكامها على بعض. فالزكاةُ تصبح مُكوساً إذا بغى الجُباة في جبايتها. ولعل هذا كان من أسباب إلغاء أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لجباية زكاة الأموال الباطنة.
وتقدم الحضارة الإنسانية اليوم، نتج عنه ضرورة قيام الدولة بتوفير كثير من الخدمات العامة التي لم تكن موجودة في عصر ما قبل الصناعة. كما ألغت الحضارة الحديثة فكرة غنائم الجهاد أو الغزو التي كانت مصدراً مالياً مهماً للممالك والأمارات والإمبراطوريات.
واليوم، فقد حلت الضرائب، محل الغنائم والفيء في وظيفتهما المتعدية الدنيوية، لا في حكمهما الشرعي. كما انها أصبحت وسيلة فعّالة لتنظيم الاقتصاد كما أنها هي المصدر التمويلي للخدمات العامة. فهي لا تختلف عن أي كلفة تُدفع من أجل أن يتمكن التاجر من تجارته والعامل من عمله والفرد من حياة طبيعية آمنة. فلو خُصِصت الطرق، لدفع الفرد والتاجر أجراً للشركة التي أنشأت الطريق. ولو كثر اللصوص فاستأجر التاجر حراساً، فلا يُقال إنّ هذه الكلفة أو الأجرة مكوس. كما أنه لا يعتبرها أحد كزكاة فيخصمها من زكاته الواجبة، وماذا لو وضعت الحكومة ضرائب مرتفعة على الدخان ونحوه فهل يقال إن هذه مكوس؟ أو يُقال للتاجر المُتضرر بأن يحتسب هذه الضريبة من زكاة أمواله فيطرحها؟ فكذلك هي الضرائب في البلاد غير الإسلامية والإسلامية على حد سواء لها مبررات قوية تخدم المجتمع، فهي ليست بمكوس وليست بزكاة. وحكمها الشرعي مما عفا الله عنه. فمن أكبر مصائب الفقه الإسلامي أنه حُشر في السياسات الإدارية والاقتصادية للدولة، التي عفا الله عنها. فالضريبة شأن اقتصادي ولا تشبه بالزكاة ولا تشبه الزكاة بها. والاقتصاد كالطب أو الفيزياء يخضع لقوانين كونية. ولذا فتعامل الشريعة مع النظام الاقتصادي في كثير من جوانبه، لا يختلف عن النظام السياسي. حيث عفا الله عن تحديد شكل النظام السياسي، بتركه على أصل الحل بالبراءة الأصلية. ولعل ذلك - والله أعلم - نابعٌ من أنّ النظام السياسي تبعٌ للنظام الاقتصادي وليس مستقلاً عنه. ولهذا فالضرائب قد تتحوّل فتصبح مُكوساً في غياب الشفافية والمحاسبة الكاملة. كما أنّ الضرائب ما لم تكن جزءاً ضرورياً لتشكيل النظام السياسي الأمثل، أولم تكن لأغراض تنظيمية محددة على سلع معينة، فلا خير فيها اقتصادياً على الإطلاق. والنظام السياسي الأمثل عند شعب أو أمة ما، لا يعني أنه الأمثل للشعوب كلها فهناك فروق اقتصادية وثقافية بين الشعوب. فالبلاد الغنية بالموارد، التي تملكها الحكومات، لا تفرض الضرائب ما لم تكن تنظيمية. والديمقراطية سبب لتبني ثقافة تقبل الناس للضرائب، فهي شرط لنجاح نظام الضرائب. والاقتصاد الحر لا ينجح إلاّ في مناخ سياسي ديمقراطي. والديمقراطية لا تنجح في اقتصاد إقطاعي، وهكذا. ومجال هذا واسع لا يتسع له المحل.