تمر بالمفكرين الوجلين حالةٌ من الاختناق، والاضطراب، وهم يواجهون التحول السريع -بل المجنون- من الحوار الحضاري إلى الصدام الهمجي، حول أشْياءٍ، قد لا يستدعي الخلافُ حولها التنابزَ، فضلاً عن القتال،
والتدمير، والتخويف. وتلك الأَوضاع غير السوية، قد تحمل صفوة الصفوة على التعجل في طرح رؤى، وتصورات، أو اتخاذ مواقف غير مُكْتملةِ الأهلية. فَيُبْدون في حالة التوتر ما يأسفون عليه، عندما تنجلي الأمور، وتستقر الأحوال، وتهدأ النفوس.
والذين كتبوا عن الحوار وأدبياته، والتقارب وضوابطه يُعَرِّجون على مثل هذه الفلتات الفَجَّة، في ظل ظروف، يفقد معها الحليم صوابه. ولقد تَجْني مثل تلك الإفاضات في ظل الظروف الخانقة على أصحابها، ومن ثم لا يجدون بداً من التحرف، للأخذ بِحُجَزِ الأقْلام، وَدَسِّ فلتاتها في التراب. غير أنهم لا يملكون إلا إمساكها على هون.
وكم من حكيم حليم ضاقت عليه مشاهدُ الفكر بما رحبت، لمعايشته تجاوزات: قولية، أو فعلية، لا يمكن احتمالها، ولا الصبر عليها.
ولقد جَسَّد [المتنبي] مثل هذه الحالة بقوله:-
[واحتمالُ الأذى ورُؤْية جَانِيـ
ـه غِذَاءٌ تَضْوى بِه الأَجْسَامُ]
وكم يبدو للمفكر، والحكيم، والحليم بوادر فعل، أو قول من علماءٍ، أو مفكرين، أو ساسة، أو حركيين لا يُقْدَرُ على مواجهتها، ولا يُصْبر على احتمالها، وذلك مصداق قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.
ولقد حَمَلت مثلُ هذه الضوائق علماءَ، ومفكرين على الصمود، والتصدي باللسان، والقلم. ولكن التصرفات من الأطراف المناوئة، حين لا يحكمها عقل حصيف، ولا توجهها رؤية محكمة، لا يعود للعقل، ولا للفكر دورٌ في المواجهة. وذلك ما تعانيه بعض شرائح الأمة في راهنها. انفلات، اختلط فيه الحابل بالنابل، وجَدَلٌ بذيء، يستحضر فيه العاقل قول [الشاعر] لأحد خصومه:
[نَجَا بِكَ لُؤْمُك مَنْجَى الذُّبَابِ ... حَمَتْه مَقَاذِيْره أَنْ ينالَ]
والأمة العربية مَرَّت عبر تاريخها الطويل بحالات اختناق، تَصَوَّرَ معاصروها أنها ذروة الفتن، ونهاية التاريخ، ولكن أَعْقَبها من عَصِيِّ الفتن مارقَّقَها، وخفف من حدتها.
وقديماً قيل:
[رُبَّ يَوْمٍ بَكَيْتُ مِنْه فلما ... صِرْتُ في غَيْره بَكْيتُ عَلَيْه]
وواقع الأمة اليوم لا يمكن تصوره، ولا احتماله، وقد يبلغ درك الشقاء. بحيث يتمنى الإنسان ما كان ضائقاً به صدره من قبل.
وها هي بعض المناطق العربية تتمنى أوضاعاً في عالمها، كانت تتفانى في التصدي لها، والقضاء عليها.
لن أبعد النجعة، ولن أوَسِّع قاعدة التناول لمجمل الأحداث. لقد أثار هذا الموضوع في نفسي واقعُ الأمة العربية المختلفة مع نفسها، فضلاً عن اختلافها مع الآخر، والمسرعة إلى الهاوية بمحض إرادتها، والمصابة بقابليتها للحراك السياسي التآمري.
والإشكالية أن طائفة من البرمين من التنازع والتدابر، يخبطون في متاهات الحلول الناجزة، أو المؤقتة. وقد يذهلون في لجة الفوضى عن الطريق القاصد.
في هذه المعمعة كان بين يدي كتابٌ أُلف في الستينيات من القرن الميلادي الماضي، للأستاذ الدكتور [مصطفى الشكعة] رحمه الله. [إسلام بلا مذاهب] أهداه لي بخط يده عام 1414هـ، في طبعته الثامنة، وكنت وقتها أستمع إلى تذمره، وماجر عليه هذا الكتاب من مشاكل، لا حَدَّ لها. وحجته أن المتلقي لم يستوعب رؤيته على وجهها، وقد أتيح له التعديل، والتنقيح في مجمل الطبعات التي تجاوزت العشر، ولمَّا يزل نذيرشؤم عليه، لما تضمنه من تنازلات، لا يحتملها الفكر السلفي.
وبعد مدة، وقعت عيني على كتاب للأديب العراقي الشيعي المتعلمن -فيما أتوقع- [رشيد الخَيُّون] [لا إسلام بلا مذاهب وطُروسٍ أخرى من التراث]، يرد في طرسه الأول على [الشكعة]. إذ [الخيُّون] يرى أن الاختلاف جوهر الوجود، وأن [لقاء السقيفة] هو أول خطوات الاختلاف. وفاته ماحكاه القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، عن بوادر اختلاف، ومراجعة بين الرسول ونسائه، أو بين الرسول وأصحابه، فالمشكلة ليست بذات الاختلاف، ولكنها في حُسن إدارته.
وكتاب [الشكعة] يُحِيل تنازع الأمة، وتنابزها، وتناحرها إلى تفرقها المذهبي، في بعده العقدي، وهو قد راوح في تناوله بين التاريخ للمذاهب، والتحليل لبنيتها المعرفية. ولكنه لم يضع يده على الجرح، وخطؤه في تبرئة الجميع، وتعاطفه مع البعض دون استيعاب لمقتضيات العقائد، وسياقات الأحداث، وأنساقها. وحتى [الخَيُّون] الذي تصدى له، لم يكن بأحسن حالاً من صاحبه. والكاتبان عَبَّرا عن رؤية مرتبطة بمرحلة مغايرة، لما نحن عليه اليوم. إذ لكل زمان خطابه، وآلياته. ولم تعد المشاكل التي أقَضَّت مضجع [الشكعة]، تمثل المشاكل التي نتجرع مراراتها، وعلى أية حال فالكتابان يمثلان مرحلة فكرية تَجَاوزها الوضع.
والمفكرون حين يتناوبون على قضية فكرية، أو مذهبية، أو سياسية، يختلفون في التوجهات، وطرق التناول، وأساليب التلقي، ومرجع ذلك اختلاف أنْساقهم الثقافية، وانتماءاتهم الفكرية، ومشاربهم المعرفية، وتعدد نظريات المعرفة التي تتوازعهم. وكتاب الدكتور [الشكعة] يعد من أوائل من ساورتهم الشكوك من جدوى التشرذم المذهبي. وهما معاً لم يُعَرِّجا على أهمية البراعة في إدارة الاختلاف، والتنوع الانتمائي.
وهنا لابد أن نعمق الرؤية في أزمة [الهوية]، والإخفاقات الذريعة في تحقيقها، وتمثلها، دون الماس بالغير، أو الحيلولة دون تمثلهم لِهُويَّاتهم على الوجه الذي لا يصادر حقوق الآخر.
لقد أعاد [الشكعة] قراءة التاريخ الحضاري ومحاولة صياغته بشكل استرضائي، وفاته أن العالمين العربي، والإسلامي، مصابان بأدواء معضلة:- داء التعصب المقيت، وداء الهويات القاتلة، وداء الجهل المطبق بإدارة الاختلاف، وداء التدخلات الخارجية السافرة، وداء الجهل بفقه: الواقع، والأولويات، والتمكين. ولك أن تمضي مع الْتِماس مزيد من هذه الأدواء التي أرْدَت الأمة في مهاوي الفتن.
قضية الاختلاف أزلية، وحتمية، وتفرق الأمة إلى ملل ونحل مُسَلَّمة لامناص منها. ومن الخطأ أن نحلم بإسلام بلا مذاهب، وفي الوقت نفسه لا نُسَلِّم لإِسْلامٍ بمذاهب متناحرة. والخلاص يكمن في الحوار الحضاري، المتوفر على أدبياته، والتفاعل بين الأطياف في القواسم المشتركة، ورفع الملفات الساخنة، في ظل الظروف غير المناسبة.
التعصب المذهبي، والتقليد الأعمى، واحتكار الحقيقة، والفشل الذريع في إدارة الأزمات، فَوَّتت على الأمة الإسلامية فرصة التعاذر، والتعايش، والتكامل.
والإصلاحيون المجددون الذين طرحوا مشاريعهم الإصلاحية، كـ[ابن عبدالوهاب] و[السنوسية] و[الباديسية]، - على سبيل المثال - بوصفها مذاهب متوازنة، وذات نزوع سلفي، لم يضعوا أساليب للتعامل مع الآخر بالقدر الكافي، بل أذكى بعض المريدين روح الأثرة، وحب الانتصار.
ودعك من الطوائف المنحرفة، والمتطرفة. كل ذلك جاء بنتائج عكسية أضرت بوحدة الأمة الإسلامية، وأذهبت ريحها، ومكنت الأعداء من رقابها.
وفوق كل ذلك يجب أن نفرق بين دعوات الإصلاح، والتنظيمات الحركية المسيَّسة.
ولما كان من المستحيل التفكير في إسلام بلا مذاهب، وجب أن نفكر في إدارة حكيمة لإسلام بمذاهب.