قرأت شطراً من تأوهات (ليسنغ)، وأيقنت أنه مجهد الفكر من مطاردة ( الحقيقة ): المطلقة، والنسبية، بكل ماهي عليه من إغواء، واستحالة. وأنه يفضل تلك الرياضة الفكرية الممتعة، والمؤذية في آن.
تقول تأوهاته :- [لو جاءني الإله، يحمل في يده اليمنى «الحقيقة» كلها، ويضع في يده الأخرى «البحث الدائم عنها»، وطلب مني أن أختار بينهما، لسجدت له خاشعاً.
وقلت:- مولاي، أعطني البحث عنها. أما الحقيقة فأنت وحدك جدير بها].
قبل الخوض في المعمعة، الثقيلة التبعات، دعونا نتعرف على أهم اهتمامات الأديب (الألماني ) البارع، والمبدع السردي المتألق، والمفكر التنويري المتوازن، والأكثر قدرة على استلال الأحقاد، والضغائن من النفوس البشرية الضيقة العطن، [جوتهولد أفرائيم ليسنغ 1729 - 1781].
لقد شغله البحث عن الوفاق، والتسامح، والتفسح للأديان السماوية. تلك الرؤية التوافقية التسامحية، لفتت إليه أنظار الباحثين العرب، الذين لم يترددوا في إنصافه، والحديث عن رؤيته الصائبة، القائمة على استبدال الصدام بالوفاق. وما أحوج العالم اليوم إلى تلك الرؤية التقاربية.
ولاسيما أننا نعيش حالة من الذهول، أمام عنف الطائفيات، ودموية الثورات، وبشاعة الإرهاب ، بشكل لا يُحْتَمل، ولا يمكن القبول به، تحت أي مبرر.
وحين تستدرجنا حُمَّى البحث عن المجهول، وتُلْقِي بنا في أتون الصراع الفلسفي، حول «الحقيقة» بكل مفاهيمها، وانتماءاتها، نجد أنفسنا وسط لهاث الفلاسفة، الذين اجترحوا مناهجهم، وقطعوا صلتهم بالإرث الرباني. وهي رؤية شاقة، وشقية، وشائقة، لا يحتمل معضلاتها إلا الذين نَكَّبوا عن ذكر العواقب جانباً.
والإنسان بطبعه مغرم بـ[الماورائيات].
أليس أبونا آدم -عليه السلام- قَبِل استدراج الشيطان له، لاجتراح البحث عما وراء تلك الشجرة التي مُنع من الأكل منها ؟.
حتى لقد جَسَّد مغامرته في حب المفارقة للواقع المبهج الشاعرُ العربي «أبو الطيب المتنبي» بقوله:- (... وَعلَّمكم مُفَارقة الجِنَان).
والفلاسفة، والمفكرون، والمتكلمون، والمتصوفة حاولوا المغامرة في ( الماورائيات).
ولما كان الشك يعني : تعليق الحكم، أصبحت شهوة الباحثين عن المجهول إطلاقه من هذا التعليق.
هناك يقين علمي، دليله الحس، والتجربة. ويقين إيماني، وسيلته التسليم، في مقابل الشك و[اللاأدرية]. ولما كانت «الحقيقة» المطلقة غائبة غياباً أزلياً، فإنه لن يتم الإيمان بها عن طريق العلم التجريبي، ولكن عن طريق العلم الاستدلالي (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير).
إننا بحاجة إلى إيمان آلته الضمير، والفطرة. ولاسيما أن الإنسان عنده ميل فطري غريزي نحو العلم، والاعتقاد: (إذا الإيمان ضاع فلا أمان) فالأمان النفسي لا يتحقق بدون إيمان عقدي، يَطْردُ شبح الخوف من المصير المجهول. والإنسان السوي : إما باحِثاً، أو مُمْتثِلا لمُدْركه.
ولأن «الحقيقة» تتعدد مفاهيمها، بتعدد الحقول المعرفية، التي تنتمي إليها، فإنّ منهج البحث يستدعي التقصي لبعض مفهوماتها، بوصفها محكومة بـ[نظرية المعرفة].
فهي عند المتصوفة ـ على سبيل المثال ـ تختلف عنها عند الفلاسفة. والمتصوفة قد يتوسلون في تحديدها بالشطح، والعرفانية. كقولهم:- (الحقيقة لا تليق بالخليقة). و(الحقيقة حقيقة، والخليقة خليقة ). وقولهم:- (الشريعة ما ورد به التكليف، والحقيقة ما ورد به التعريف).
والمعتدلون يقيدون، وإن وقعوا في الحِمَى. يقول أحدهم :- ( الشريعة مؤيدة بالحقيقة، والحقيقة مقيدة بالشريعة ). وهي عند المتصوفة مرتبطة بخرافة المكاشفات، وشهود الأحوال، والحس الصوفي الإلهامي.
ولأن الحقيقة عند المتصوفة مرتبطة بتصرف الله، فإنهم حين يوازنون بين الشريعة، والحقيقة. يقولون (الشريعة أن تعبده) و(الحقيقة أن تشهده)، والحقيقة فيما سوى الفلسفة:- [مطابقة الفكر للواقع]، أو مطابقة ما في الأذهان للأعيان. والحُدُوس: الحسية، والنفسية، والصوفية، والإلهامية مراحل أولى للمعرفة. و[نظرية المعرفة] تراوح بين الصوري، والاستقرائي، وتلك متاهات مُضِلَّه.
ومن شطح المتصوفة، في تصور الحقيقة، أنهم فسروا آية:- {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } حيث جعلوها سبيلاً لإسقاط التكاليف الشرعية. إذ زعم بعضهم أن من بلغ (الحقيقة) سقطت عنه التكاليف. واليقين الإيماني يختلف مقتضاه عما يراه غلاة الباطنية.
وجذر اليقين، يعني زوال الشك، والاعتقاد الجازم، والعلم المستقر في القلب. واستخدامه في الموت من باب استخدام الصفة للموصوف، فلما كان الموت متيقناً، أصبح يقيناً. ولهذا قال الله تعالى:ـ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت المتيقن، ولا يمكن أن يكون اليقين هنا بمعني الإيمان العقدي، وشذ من فسر اليقين هنا بالمعرفة.
على أن هناك يقيناً إيمانياً، يبدأ بعلم اليقين، ثم يرقى إلى عين اليقين، ثم يصل إلى حق اليقين. وقد جاء في القرآن علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين. وتفسير ذلك لا يُتَوقَّف به على الدلالة الوضعية، بل لابد من السياق، وهو ملمح دلالي، لا يناله إلا العالمون بأسرار اللغة، وعبقريتها.
وكل هذه التدرجات اليقينية، لا تبلغ «الحقيقة» في نظر أهل السنّة والجماعة. وإن اضطربت تصورات الفلاسفة، والمتصوفة، والمناطقة. والفلاسفة أكثر دقة، ومنهجية، وموضوعية من شطح المتصوفة.
والمتصوفة لتأويلاتهم أصول تلفيقية، تستمد لحمتها من النظريات الفلسفية، والأصول الباطنية، ومن نظرية الكشف الوهمية.
وممن اقترف الشطح (الحلاج ت 309)، وقد بالغ، و(الغزالي ت 505)، وقد وازن، و(ابن عربي ت 638) وقد ضل. ولكل واحد منهم أتباع، ومريدون أوغلوا في الشطح والخرافة. ومن أقوالهم المغرقة في الشطح:-
( خضنا بحراً، وقف الأنبياء بساحله)
فـ[الغزالي] يصف ترقي العارفين إلى يفاع الحقيقة، بتصور قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} بحيث يكون الموجود وجه الله تعالى فقط. وقل مثل هذا عن تخبيصاته في (آية النور) فالمشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت، أرواح: حسية، وخيالية، وعقلية، وفكرية، وقدسية. والقدسية ما يُخَصُّ بها الأنبياء، وبعض الأولياء! وبها يدركون [الحقيقة]. وقل ما شئت عن (الحلاج) و(ابن عربي) وسائر المتصوفة الغنوصيين. والتيه والتخبيص لا يكبح جماحهما إلا الإيمان. وكم من مفكر عنيد صاح في آخر النفق:ـ [اللهم إيماناً كإيمان العجائز]، و[نهاية إقْدام العُقُولِ عِقالُ].
[الإيمان] قبل أن يكون عبادة، هو حاجة فطرية، فهو بالنسبة للإنسان كالجبال بالنسبة للأرض، لا يمكن أن يرسو، ويثبت، إلا به. فهو حاجة عقلية. الإنسان لن يدرك [الحقيقة المطلقة]، والعجز عن الإدراك لا يمنع من البحث عن مناط يتمثل بالعلة الَعلِيِّةِ، المعجوز عن تصورها، فضلاً عن رؤيتها.
فعندما أطلق (موسى) عليه السلام سؤاله الجريء:ـ {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. ماذا كانت النتيجة أمام هذا التساؤل الخطير؟. لقد جعل الجبل دكا:- {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}. إنه التسليم المطلق العاجز عن معاودة السؤال.
وهنا لابد في تصور حجم «الحقيقة» في ذاكرة الإنسان من التوسل بعلم النفس، لفرز الممكن، وغير الممكن في خفايا النفس الإنسانية. هناك هواجس تعتمل في الصدور المؤمنة، فضلاً عن الأنفس الشاكة المرتابة.
- الصحابة - رضوان الله عليهم، حين صدمتهم :- {إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} استعجلوا الوحي، ليثبت أفئدتهم. فلما نزلت {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ربعوا على أنفسهم، وأصبح من حقهم التفكير المطلق، والإبداء المقيد. إذ كل إنسان له عوالمه الخفية التي تقشعر منها الجلود، وهي طوفان الأسئلة الباحثة عن «الحقيقة».
هناك [مُثْلُ ] و [أشياء]، قد نتوسل بسفسطة [افلاطون] للمقاربة الحذرة، ولكننا سنعود، وكأنَّنا لم نبرح مكاننا. فـ[المُثُل] الأفلاطونية صور الأشياء، وجواهرها، التي تعيش خارج مادتها. و[افلاطون] الذي هلك، وفي نفسه شيء من تقسيماته الثنائية،لم يبلغ إدراكه للحقيقة بالقدر المتطلع إليه.
كل الأناسي مصفدون بحواسهم، والبعض منهم يحاول تطويل سلاسله، ليقترب من اللهب، ولا يحترق. لقد غامر [موسى] عليه السلام، وحاول الاقتراب، ولكنه خر صعقاً من هول الحدث .
وكم هو الفرق بين سؤال موسى، وإبراهيم - عليهما السلام -. موسى يسأل عن الحقيقة:- {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. وإبراهيم يسأل عن مؤشراتها:- {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى}. لقد أجيب إبراهيم، ولم يجب موسى. وبين هذا، وذاك تحسم مشكلة البحث عن الحقيقة المطلقة، ويأتي التقرير، والإقرار المحمدي :- [نور أَنَّى أراه]، أي تستحيل الرؤية في الدنيا، وبهذا يستحيل البحث عن الحقيقة المطلقة، حتى لقد اضطربت مفاهيم الرؤية في الآخرة بين الفرق الإسلامية.
على أن هناك [حقيقة مطلقة] وأخرى واقعية. و[عالم منطقي] وآخر واقعي. والربط بين النوعين يتوسل بخصائص كل منها. وإذ لا يكون بالإمكان تصور الأشياء في عوالمها الغيبية، فإن بالإمكان إدراكها من خلال البلاغ. هناك لون، وشكل، حسيان، مدركان. وروح محسوسة غير مدركة. وعجبي من اندفاع عدد من العلماء في موضعتهم للروح، وتأليفهم كتبا ً في ذلك، وفي القضاء والقدر. والقرآن قد حسم الموقف :-{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
ومن ثم لم أعرج على حقل [الروح]، ولا على حقل [القضاء والقدر] لعلمي اليقيني أن الخوض فيهما يعد من باب البحث عن الحقيقة.
وقصة (موسى ) مع (الخَضِر) - عليهما السلام - صَرْفٌ عملي عن مساءلة القدر، لأنه مساءلة لله، والله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}.
ما أود الخلوص إليه، و أنا أنظر إلى حقول الفلسفة، والعقل، والتصوف، والذات الإلهية، وعلم الكلام في مكتبتي، العمل على صرف الجهود إلى ما هو أهدى وأجدى.
والعلماء الورعون يستاؤون من ظاهرة (علم الكلام )، والذين جُرَّت أقدامهم، استساغوا ذلك، لرد تجاوزات أصحاب الملل والنحل، وإبطال تأويلاتهم الفاسدة. ومن ثم لم يكونوا ممن يَقْعدون مع الذين يخوضون في آيات الله بغير علم.