تتجلّى عبقرية الإسلام، واستمراريته، في تهيئة محطات: زمانية ومكانية. للتصفية، والتربية، والخلوص من وضر المقترفات، وشوائب اللَّمم. غير أنّ السواد الأعظم من المُكَلَّفين، لا يتجاوزون الممارسة الشعائرية الفارغة من كل مقصد. حتى
[القرآن الكريم] قد لا يتجاوز تراقي البعض منهم. ومن ثم كثر المسيئونَ في الصلاة، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولهم:- «ارجع فصلِّ، فإنكَ لم تُصلّ» وقد صَلاَّها المسيء ثلاثاً، ولم يستوعب الخطأ. حتّى بُيِّن له.
ولو أنّ المسيءَ صيامه أعيد المرة، تلو الأخرى، حتى يُحْسِنه، لقضى العام صائماً. فالصيام لا يتوقف على صرف المعدة عن الطعام، بل هو صيام سائر الأعضاء، والجوارح، ولغة اللسان عن اللغو، ولغة الجسد عن الهمز واللمز.
والأمة الإسلامية تستقبل شهراً استثنائياً، تُضاعفُ فيه الحسنات، وتُغفر فيه السيئات، وتجاب فيه الدعوات، غير أنّ أخلاقيات الاستقبال، لا تليق بعظمة الضيف الكريم. ومن أقوال الورعين:- [صَلِّ صلاةً تليقُ بخالقك، أو ابحث عن إله تليق به صلاتك].
فالناس يُغرقون في اللهو، ويتمادون في اللَّغْوِ، ويسرفون في الأكل، والشرب، حتى لقد قيل بأنّ الإنفاق على الملذات، والشهوات، يتضاعف أربع مرات في شهر رمضان عمَّا سواه.
و[قنوات الضرار] تُسرف في إعداد برامج التلهية، والتسلية، وسرقة الوقت، وملء الفراغ بفراغٍ مُضر: صحياً، وأخلاقياً، ودينياً. هذا فضلاً عن قنوات الفجور والتضليل.
ومن سيئ العادات أن تنقلب الأوضاع رأساً على عقب. فيكون الليل نهاراً، والنهار ليلاً. ومن ثم يتعرّض المسلم لاضطرابات خطيرة في [الساعة البيولوجية]، وتؤدي العودة إلى ما قبل الصيام إلى اضطرابات: نفسية، وصحية. وفي ذلك إجهاز متعمّد على مقاصد الصوم في الشريعة الإسلامية، وإضرار بالصحة والاقتصاد.
أقول هذا، وأنا لم أسلم من هذا الدخن، ولكنه الإكراه، لا البطولة. ومن ثم تتعثّر شُباة القلم بـ{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، و:-
[لا تنه عن خلقٍ، وتأتي مثله ...]
لم أكن مُنساقاً وراء هذه السلبيات طواعية، ولكنها الأنساق الثقافية، التي أزاحت أنساقنا المألوفة، والمُحَبَبَّة.
المريح أنّ أول خطوات التصحيح أن تدين نفسك:- {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. فالاعتراف بالتقصير أول خطوات الحل، ومع كل هذه المثبطات سوف أتخلص من هاجس الإحباط، وأصدع بالحق، وإن كان مُراً.
عبقرية الإسلام ـ كما أشرت ـ تتجلّى في استمرار التواصل مع الشعائر المستفيضة بالمشاعر، وليست الفارغة من محتوياتها، ومقاصدها. ولهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أثر الصلاة، والوضوء على الملتزم، بالرجل الذي بابه على نهرٍ جارٍ، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات. وهذا الوصف الحسِّي التربوي الذي تذهب معه كل الأدران، سيقَ لإيضاح الأثر المعنوي. فالمصلي المُتم لكل متطلّبات الصلاة، لا تعلق به الذنوب. وكذلك الصائم إيماناً واحتساباً، وسائر العبادات الخالصة المطابقة، تطهر المظاهر، وتنقي السرائر، وتشيع الود.
ورؤية الإسلام في تراتب العبادات، تنبني على مقاصد، مؤداها تفادي تراكم المعاصي، كي تتسنَّى تصفيتها أولاً بأول، فالصلوات الخمس محطات إنابة، وكذلك سائر العبادات الموسمية.
فالإنسان كلما استغرقته الشهوات، واستعبدته الغرائز، وتلبس بالذنوب عبر حواسه الخمس، سمع المُنادي يردد:- {الله أكبر}، مُشعراً إيَّاه بأنّ كل محسوسٍ دون عظمة الخالق، فإذا احتقر دنياه، وذهب إلى مسجده، مستدبراً المال، والولد، وملذات الحياة، ودخل بيت الله، تحاتت ذنوبه كورق الخريف، وعاد كيوم ولدته أمه. لكن ذلك يتطلّب استكمالاً لخشوعها، ونهيها عن الفحشاء والمنكر.
وإذا كانت الصلاة تتعهّد المؤمن في اليوم، والليلة خمس مرات، تنقِّيه من أوضار الشهوات، فإنّ الحج، والصوم، والزكاة، تتعهّده في كل عام مرة، لتتعقّب ما تفلت على تلك الشعيرة.
بقي أن نستشعر عظمة الصوم، كما جاء في الحديث القدسي:- [الصوم لي وأنا أجزي به]. وهذا الاستلحاق، يتحقق في الصوم من جانبين:-
الجانب الأول: أنه سِرٌ بين العبد وربه، فلا يدخله الرياء، كالصلاة، والزكاة، والحج.
الجانب الثاني: أنه لم يؤثَر أنّ أمة صامت لأصنامها.
وتبقى عظمة الصوم مع هذا الاستلحاق مغرية بمزيد من التمثل، والتقوى، واحترام قدسية الزمن. فالله يمنح الأمكنة، والأزمنة، والأناسي مكانة، يستحقون معها الجلال، والجمال.
فالأنبياء، والصالحون، والمصلحون، وحملة الشريعة بحقها: علماً وامتثالاً على مراد المشرِّع. والأراضي المقدسة في المساجد الثلاثة. والأشهر الحرم، وليلة القدر، ورمضان، ويوم عرفة، والعيدان، كلها خُصَّت بما يستدعي احترامها، وإجلالها، والاستفادة من مضاعفة الأجر فيها. حتى أنّ بعض الصحابة وضع سرادقاً في الحرم للعبادة، وآخر في الحل للتجارة، خوفاً من مضاعفة العقاب، ورغبة في مضاعفة الثواب.
والأمة اللاَّهية هي التي لا تستشعر قيمة المواسم، وطهر المقدسات. فيما يستبق عَبَدَةُ الدرهم، والدينار مواسم التجارة، يضاعفون العمل، ويزيدون الكسب، وينتهزون الفرص، ويتنافسون في المضاربات التجارية، مع أنّ كل الذي فوق التراب تراب:- {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
والمحروم من أتيحت له مثل هذه المواسم الثرية، ثم لم يبادرها بما يليق بها.
صحيح أنّ لرمضان في سائر ديار المسلمين مظاهره الروحانية، وضجيج العبادات، والإكثار من الصلوات، ولكنها شعائر قد تكون فارغة من المشاعر عند الدهماء. ما نوده تمثل الشعيرة بمقاصدها، والخلوص من الضجيج الفارغ الاستهلاكي.
لقد فرض الصوم لغايات، ومقاصد:ـ روحية، وصحية، وتعبدية، وتعاملية. والمترفون يكادون يعكسون الأمر. بحيث يسرفون في الأكل، والسهر، واللهو. وحين ينسلخ شهر الصوم، يغالبون العودة إلى ما هم عليه من قبل، ثم لا يترك الشهر في سلوكياتهم أي أثر.
وإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنّ شعيرة الصوم لا تقل عن فعل الصلاة، من حيث الامتثال لأمر الله، على مراد الله.
وفوق هذا فإنّ شهر الصوم فرصةٌ ثمينة، لتصفية الحسابات على مستوى الأفراد، والجماعات، والدول. فالخلافات التي تراكمت خلال العام، من المناسب جداً أن تعاد قراءتها، في سبيل تصفيتها:- {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
فالفرد قد يختلف مع أقرب الناس إليه، وقد تبدو منه بعض التجاوزات في حق الجار، والصديق، والزميل، والعميل، والمراجع، والتلميذ، والأستاذ، والمسؤول، والقريب. وتلك المناسبة التعبدية فرصة نادرة، لتفادي مثل هذه القضايا المؤجلة. فشهر الصوم يجب أن يعيد الناس إلى صفائهم، وحسن علاقاتهم، ليدخل الجميع في عام جديد، لا تعكر صفوه العداوة، ولا الشحناء.
والرابح من يبادر أخاه بالسلام، والعفو، وهي من الأكبر للأصغر أولى، وقُدْوتنا ما حصل بين الأخوين: [الحسن بن علي]، وأخيه [محمد بن الحنفية]، رضي الله عنهم، حين طلب الأخير من الأول القدوم عليه للمصالحة، حتى يكون للحسن الفضل في كل شيء.
وإذا كانت هذه المبادرات مطلوبة على مستوى الأفراد، فإنها على مستوى المذاهب، والطوائف، والملل، والنحل أولى.
وما أحوج المختلفين إلى إتقان لغة الحوار، وعدم التجاوز بالخلاف إلى حد القطيعة، أو البحث عن الانتصار.
والمؤسف أننا نعايش زمناً، تجاوز فيه المختلفون اللسان إلى السنان. وكيف تتوفر هذه الشعيرة على مقاصدها القائمة على التراحم، والتعايش، والتعاذر، والأمة الإسلامية يقتل بعضها بعضاً، دون استشعار التحذير الذي أطلقه من لا ينطق عن الهوى: [لا تعودوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض].
أما على مستوى الدول، فَحَدِّث، ولا حرج. وماذا على الأمة العربية التي تجمعها اللغة، والدين، والمصير المشترك، لو أنها استغلت هذا الشهر الكريم، وتسابقت إلى التنازلات، والإيثار، وتأجيل الملفات الثانوية، للحيلولة دون نفاذ اللعب السياسية، التي يحلو لها تفريق الكلمة، وتشتيت الشمل.
والكلمة القيّمة التي وجّهها [خادم الحرمين الشريفين] للأمتين العربية والإسلامية، وللشعب السعودي بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، تتمحور حول تأليف القلوب، وتوحيد الجهود، ومواجهة الإرهاب، والتصدي لدعاة التضليل.
- فهل من مُدَّكر؟
إنه شهر مليء بالفرص النادرة، التي تفوت الواحدة تلو الأخرى، من بين أيدينا، دون أن نستفيد، أو نفيد.
فلنصم كما أُمرنا، ولْتصم معنا ألْسنتنا، وأقلامنا، وجوارحنا. ليُحقِّقَ الصيامُ مقاصده في مجتمعات، قيل عنها من قبل:- فيها مسلمون، وليس فيها إسلام. عسى أن نستعيد إسلامنا من مجتمعات فيها إسلام، وليس فيها مسلمون.