في الخمسينيات والستينيات من القرن الميلادي المنصرم، قبل أن يتمكن الحركيون المتأسلمون، أو يُمكنون، من تعليمنا، كان مسمى (الثورة والثوري) في بلادنا من النعوت التي يأباها ويترفع عنها العامة، قبل المتعلمين؛ لأنها مرتبطة آنذاك بالفكر الماركسي (الثوري)، ولأنها كذلك حرب على الله ورسوله. وكان الوعاظ البسطاء يجهلونها، ويجهلون معناها، إلا أنهم يدركون أنها دخيلة على ثقافتهم، فيحذرون الناس منها.
ومن النوادر المضحكة والمعبرة في الوقت نفسه أن واعظاً عاميا ساذجا ربط (الثورة) بالثور، فحذر منها قائلاً: (الثوري تراه ثور)! ثم تساءل بلهجته العامية: (أسألكم بالله، هنا عاقل يقول أنا ثور، وأبوي ثور، وأمي بقرة، وأهلي بقر، ويرضى يسمى ثوري؟)!.. لذلك كان مصطلح الثورة يأباها العوام من الملتزمين، وكذلك الفقهاء والعلماء ويرفضونها، ويرفضون تبعاتها، انطلاقاً من أنها (تمرد)، وخروج، ودعوة للفتنة؛ تتناقض مع ثوابت وأصول أهل السنة والجماعة على اختلاف مذاهبهم.
وما إن أنتجت بذورحركة جماعة الإخوان المسلمين الذين أوكلنا إليهم - للأسف - مسؤولية التعليم في بلادنا، وانتشرت ثقافة ما يسمى (الصحوة)، تغير أول ما تغير أن مشايخ (ثوريين) فعلاً طفوا فوق السطح، وأصبح لهم مكانة وقدر في بيئتنا، أوكما يقولون (حنة ورنة)، هؤلاء المشايخ الجدد تمسكوا بالموروث شكلاً، فتراهم يعفون لحاهم على الطريقة السلفية، ويقصرون ثيابهم، ويبتعد الواحد منهم عن لبس العقال كما كان مشايخنا يفعلون، ويبتدئون خطبهم ومواعظهم بذات الطريقة التي كان السلف يبتدئون بها خطبهم ودروسهم وتقاريرهم الفقهية، إلا أنهم بعد ذلك يضربون بثوابت وثقافة السلف وتعاليمهم وأصولهم عرض الحائط. وبالذات نظرية الطاعة عند أهل السنة، وما استنبط منها علماء السلف ثوابتهم الفقهية.
اللافت أنهم يصرون على (الثورة)، ويشرعون للتمرد والدعوة إليه، ويتلمسون لاستنباطاتهم الأدلة، ويلوون أعناق النصوص متى ما اعترضت طريقهم، وينتقون من التراث ومن المقولات المأثورة ما يسند استنتاجاتهم، إلا أنهم يضربون بنمط حياة الثورة والثوريين عرض الحائط، ومعها كذلك ما عُرف عن السلف من الزهد في ملذات الدنيا.
أحدهم شيخ لا يُخفي أنه (ثورجي) ولا يخجل من كونه داعية ثورة وتمرد، وألف في ذلك علناً كتاباً يدعو فيه إلى (الثورة)؛ إلا أنه في حياته، ومعيشته، يعيش حياة مترفة باذخة، بل وفي غاية البذخ والترف؛ فلديه قصر ضخم مؤثث على أحدث طراز - كما يقولون - في الرياض، وقصرآخر كذلك في جدة يقضي فيه وذووه إجازاتهم القصيرة، ولا يركب من العربات إلا الغالي والثمين منها - (بانوراما) مثلاَ - وإذا سافر فليس أقل من الدرجة الأولى في الطائرة؛ الشاهد أن الثورة والتورية، هي لديه للتصدير (فقط) خارج بيئته الخاصة، وليست للاستعمال المنزلي، لأنها لا تتواكب مع (أُبّهـَة) فضيلته، وعشقه وعشق من يعولهم للدعة والراحة والترف، والاستمتاع بمباهج الحياة.
وهنا أتذكر قصة قرأتها عن بذخ الشيوعيين عندما استلموا السلطة في الاتحاد السوفييتي. تقول: إن «بريجنيف» الزعيم السوفييتي زارته مرة والدته في موسكو فرأت الحياة الباذخة المترفة التي يعيشها في منزله، فعلقت بسذاجة: (أخشى عليك يا ولدي من الثورة، فكيف ستواجه الثوار إذا نجحت ثورتهم وأنت تعيش هذه الحياة الارستقراطية) ولم تكن تعلم أن ابنها سيصبح أحد زعماء الثورة ومنظريها!
كل ما أريد أن أقوله هنا: إن هذا الشيخ الثورجي، هو ضحية لمنتجات تعليمية أدلجته وحادت به وأقرانه عن الطريق السوي، وأعاقتنا عن التنمية والتقدم، مثلما أعاقت مصر، - حيث نشأت حركة الإخوان - عن التنمية والتطور أيضاً؛ وكما يقولون: (فاقد الشيء لا يعطيه). واقرأ - إن أردت - حواراتهم، ومنطقهم، وحججهم، في كتاب (حتى لا تكون فتنة) للمرحوم الدكتور «غازي القصيبي» لتعرف ماذا جنت علينا جماعة الإخوان وما يسمى (الصحوة)..
إلى اللقاء