اقترح الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء، ضرورة توسيع هيئة كبار العلماء، لتشمل أعضاء من تخصصات علمية أخرى. الاقتراح في غاية الموضوعية والواقعية، ويأتي مواكباً لمتطلّبات القضايا التي تُعرض على الهيئة اليوم؛ وغني عن القول إنّ مفهوم (العلم) في التعريف المعاصر لم يكن كما هو عليه في الماضي؛ فقد أصبح هناك علماء ومتخصصون في كل مناحي الحياة وتفصيلاتها، وليس في العلم الشرعي فقط، وهذا ما يتطلّب إثراء منتجات الهيئة بأن تضم بين أعضائها مختصين في شتى العلوم المعاصرة؛ خاصة وأنّ علماء أصول الفقه يقولون: (ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب)؛ وعليه فإنّ اقتراح الشيخ ابن منيع قد يرقى إلى درجة الوجوب من حيث التـأصيل الشرعي؛ نظراً إلى أنّ أغلب النوازل التي تُحال من خادم الحرمين الشريفين إلى الهيئة، (لاستشارتهم) في مقتضياتها الشرعية، هي غالباً قضايا مستجدة، لن تسعفهم فيها معلوماتهم الفقهية والحياتية العامة، أو المراجع التقليدية التي درسوها، ولا يكفي لمعرفتها، والإلمام بها، ورصد تفاصيلها، والتنبُّه إلى مآلاتها، إلاّ أن يتولّى بحثها ونقاشها علماء متخصصون تخصصاً دقيقاً في هذا العلم أو ذاك.
الشيخ المصري المعروف «محمد عبده»، والذي شغل منصب (مفتي للديار المصرية) في نهايات القرن الميلادي التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سبق وأن أتاه مستشرق أوروبي، وسأله يريد إحراجه سؤالاً يقول: (جاء في القرآن {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (38) سورة الأنعام، فهل لك أن تخبرني بمقتضى هذا النص القرآني كم ينتج إردب القمح من رغيف مثلاً؟).. فالتفت الشيخ إلى طلابه، وقال: (من منكم يعرف خبازاً ليجيب على سؤاله؟)، فاعترض المستشرق وقال: (أنا سألتك أنت، ولم أسأل الخباز ؟). فأجاب الشيخ في فطنة تدل على حصافته وعمق علمه: (والقرآن الكريم أيضاً جاء فيه {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل، و(أهل الذِّكر هنا) هم الخبازون وليس الفقهاء)، فسكت المستشرق، وأدرك ضمناً الفرق بين فقهاء الشريعة في الإسلام ورجال الدين (الكهنوتيين) في الديانة المسيحية؛ فالمستشرق سأل الشيخ وفي ذهنه، أنّ في الإسلام رجال دين، ومؤسسة دينية، مثل ما أنّ في المسيحية رجال دين ومؤسسة دينية.
وكانت طبقة رجال الدين الكهنوتيين في الديانة المسيحية (الإكليروس) إبان العصور الوسطى، يستأثرون بكل العلوم، ويرفضون أي اجتهاد علمي يخرج خارج مؤسسة الكنيسة، ويمس سطوة ووصايتهم على المجتمع؛ ولعل أشهر قضية نقلها لنا تاريخ استئثار رجال الدين الكنسي بالعلم وتفسيراته في أوروبا، كان التصادم التاريخي الذي حدث في القرن السابع عشر الميلادي بين العالم الفيزيائي الإيطالي الشهير «جاليليو» ورجال الكنيسة؛ فعندما اكتشف جاليليو دوران الأرض، وأعلن عن اكتشافه، حكمت عليه الكنيسة الكاثوليكية بــ (الهرطقة) - (مصطلح كنسي بعني الزندقة، والخروج عن المعتقد الديني السائد) - ومنعته من التدريس في الجامعة، ليأتي الفاتيكان بعد زهاء الثلاثمائة سنة، ويعتذر عما فعله فيه أسلافهم.
ويؤكد المؤرّخون أنّ تزّمت رجال الكنيسة، وإصرارهم على التصدي لكل العلوم خارج موروثات الكنيسة الكاثوليكية من اكتشافات علمية في شتى العلوم، كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى اتجاههم نحو (المنهجية العلمانية)، وفصل حياتهم عن سطوة وتسلّط ووصاية رجال الكنيسة، الذين سبق وأن ذمهم جلّ وعلا في كتابه المطهر بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة
والسؤال: لماذا جاء هذا الاقتراح الموضوعي والمتماهي مع مصالح المسلمين، وإصلاح شؤونهم، من «الشيخ عبدالله بن منيع» تحديداً؟.. السبب في تقديري أنه من علماء الرعيل الأول، وغير مؤدلج سياسياً، ويهمه مصلحة البلاد والعباد، ولم يتلوّث بالثقافة (الحركية) الوافدة، التي لوّثت غيره، ومن يحيطون به، فتحوّل خطابه إلى خطاب يلهث بحثاً عن (الجماهيرية) حتى وإن كان على حساب الوطن.
إلى اللقاء.