يرتبط كثير من المعتقدات الشعبية والدينية بنصوص متناقلة أضفت عليها الأجيال المتعاقبة عبر الزمن الطويل أظلة متراكمة من الإيحاءات والمعاني التي حولتها لأساطير وربما خرافات لا تستند لأي برهان علمي أو عقلي.
ويساهم البعد العقائدي في تصديقها بل الإيمان بها.
ولا تخلو أي ثقافة من معتقدات اسطورية تنسجها حول معتقداتها، فما زال الكثير من المسيحيين يؤمنون بإمكانية تواصل القساوسة مع الرب مباشرة، وفي وجود الأشباح تعيش بينهم للقديسين. ويعتقد اليهود أنهم شعب الله المختار وأن الشعوب الأخرى «القوييم» خلقها الله لخدمتهم فقط، ولذا فمعايير العدل والرحمة والشرف لا تشملهم. ولدى الهنود اساطير نسجوها حول البراهما ولديهم نظام فصل عنصري عقائدي يعتبر بعض الطبقات نجسة لا يجوز لمسها مطلقاً، وفي أفريقيا يعتقد الأفارقة بالفودوو طارح الأرواح الشريرة التي تجلب الأمراض، وبعضهم يعتقد أن أكل العدو يقي من شره مستقبلاً.
ويرى بعض الباحثين في علم الإناسة تشابها مورفولوجيا كبيرا، أي من حيث المكونات والعلاقات بين هذه الأساطير بين الثقافات نتيجة لتشابه تكوين العقل البشري وتشابه آليات تفاعله مع البيئة المحيطة به. ومن أهم سمات الشخصيات المقدسة التي نسجت حولها الثقافات التقديس والأساطير كرموز أسطورية «التضحية» فهي دائما شخصيات تضحي بنفسها لإنقاذ وإسعاد الآخرين إما من خطر واقع أو من عدوداهم، وتختلف طبيعة هذا العدو من ثقافة لأخرى حسب الظروف المهددة لها. وغالباً ما يهجر الرمز حياة الرفاهية التي يعيشها لينعزل ويزهد في أمور الحياة من أجل الوصول للحقيقة المطلقة، والتشرب بالإيمان المطلق بضرورة إنقاذ البشرية من مصيرها المظلم. فهذه جميعها مكونات أساسية للفكر الأسطوري الذي يتمحور حول الرمز الاسطوري. ولو نظرنا لشخصيات بعض الأئمة والأولياء الذين يتبرك الناس بهم في ثقافتنا لوجدنا تفكيراً اسطوريا مشابهًا.
فالإمام الخميني مثلاً، اعتزل الناس، واعتبره أتباعه ولياً مقدساً معصوماً، فهو جاء لينقذهم من «الشيطان الأكبر» الذي أطلقه الإمام الخميني على أمريكا، وبما أن وجود الشيطان الأكبر يستلزم وجود شيطان أصغر، فقد أطلق الإمام الخميني لقب الشيطان الأصغر على رئيس العراق صدام حسين إبان الحرب العراقية الإيرانية. ومن هنا انطلق نسج الهالة الأسطورية حول الخميني الذي أسس لولاية جديدة للفقيه في إيران بعد سقوط الشاه المدوي، وسقوط اسطورة سلالة قورش الفارسية التي كان الشاه يروج لها بنوع من التقديس أيضا.
فقد كان الإيرانيون أيام الشاه يعتقدون أنهم سلالة مختارة من أباطرة أقدس الأعراق على الأرض، ثم استبدلوا ذلك باعتبار أنفسهم أمة الولي الفقيه الذي سيمهد لعودة المهدي، أمة مسؤولة عن الشيعة في كل مكان وزمان. أي أن الفكر الأسطوري الإيراني تحول شكلاً وليس مضموناً من الشاه للخميني الأول تاريخي والثاني عقدي. فالخميني ينظر له على أنه مخلص الشيعة في العالم وليس إيران فقط من الشرور والشياطين.
وجود الأسطورة في حد ذاتها ليس معضلة، ولكنها تصبح خطراً كبيراً عندما توظف سياسياً، وتأخذ بعداً استراتيجياً، فسقوط الشاه لم يكن بفعل الخميني وأتباعه فقط، بل بسبب رفض كافة القوى السياسية الأخرى لاستمرار حكمه ومنهم القوميون من اتباع مصدق، والاشتراكيون والشيوعيون من حزب «توده» وغيره من الأحزاب القوية الفاعلة آنذاك. لكن الغرب في خضم الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، فضل تسليم السلطة لرجال الدين بالحفاظ على الخميني وتسليمه السلطة وكان حينئذ فقيهاً ولكنه ليس ولياً، حتى إن أبو الحسن بني صدر أقرب السياسيين له الذي رافقه في منفاه في باريس وأول رئيس وزراء لإيران في عهده، عبر عن اندهاشه من البعد الاسطوري الذي أحيط بشخصية الخميني فيما بعد، وعن اندهاشه عن تغير أسلوب نظرته لنفسه والعالم من حوله وقال في مقابلة لقناة العربية أنه لم يكن يصدق أن الخميني المتواضع سيتحول لولي من أولياء الله.
ظهور الخميني في عام 1979م وتسليمه السلطة في إيران كان البداية الحقيقية لظهور الشيطان الأكبر الحقيقي في منطقتنا ألا وهو الطائفية، ولم يكن ذلك غير ذي صلة بالانتهازية الغربية التي رأت في التطاحن الإسلامي/الإسلامي خياراً استراتيجاً ممتازاً على كافة الأصعدة، ورغم النفاق الكبير الذي يطلقه الغرب حول محاربة الإرهاب بعد 11سبتمبر فهذا يعد «إرهابا أصغر» فيما لو قورن بالإرهاب الأكبر ألا وهو موت 3 ملايين من المسلمين من أبناء العراق وإيران وغيرها في حروب طائفية أججها الخميني ولا زالت مستمرة حتى اليوم، فهذا هو «الإرهاب الأكبر» الذي تتجاهله وسائل الإعلام الغربية، بينما تصدح بتضخيم ضحاياها من الإرهاب الأصغر، وتعيد التذكير بخطره بشكل مستمر.
وهناك احتمال من احتمالين لظهور الشيطان الأكبر (الطائفية) في منطقتنا: أحدهما أن الغرب بتنصيبه للخميني كان يعد لذلك ويعرفه ويدرك أبعاده؛ والثاني أنه أثر جانبي غير مقصود وغير مخطط له ولكنه تطور بشكل قررت معه البراقماتية الغربية الاستفادة القصوى بشكل انتهازي منه. فالغرب يبيع الأسلحة للطرفين، والطرفان محل مساومات في بازارات سياسية إقليمية أقل ما يقال عنها إنها مخجلة لأنها تتجاهل الضحايا بمئات آلاف من الأبرياء من الطرفين الذي تعود العالم على سماع سقوطهم بالمئات يومياً، فسقوط هذه الأعداد من الضحايا في نظر الغرب اعتيادي، فهي شعوب تعتمد أسلوبا ثقافيا عنيفا بالفطرة يكون فيه الإنسان يا قاتل يا مقتول، ولذا فمن الأفضل أن يستمروا في قتل بعضهم البعض الآخر اتقاء لشرهم.
وحسب تصريح لكلود شيصون وزير خارجية فرنسا الأسبق بعيد حرب الخليج الأولى، باع الغرب للطرفين أسلحة بقيمة 500 مليار دولار للطرفين، هي قيمة مدخراتها من بيع النفط لعقود خلت، وذهب معظمها للعراق الذي خرج شبه منتصر من الحرب، ورغم العداء الظاهري بين إدارة ريجان وحكومة الخميني إلا أن فضيحة «إيران جيت» أظهرت أن الإدارة الأمريكية كانت تبيع أسلحة صواريخ متطورة لإيران سراً عبر إسرائيل (التي تدعي إيران أنها تجهز قوتها لمحاربتها) وذلك لاستدامة الصراع.
وقد كتب فيلسوف الغرب ومستشرقه الأول: بيرنارد لويس، وهو مفكر تصغي له جميع الإدارات الأمريكية فيما يتعلق بالعالم الإسلامي، مقالاً قال فيه: إن علينا أن ندخل المنطقة في صراع شيعي سني يستمر لمئة عام، يكون كحروب داحس والغبراء. ويتم تقسيم المنطقة بعده لدويلات مذهبية صغيرة ضعيفة وفقيرة ومفككة ليستولى الغرب وإسرائيل على ما تبقى من ثروات المنطقة.
الأسلحة التي باعها الغرب للعراق وتراكمت لديه، عاد في حرب مدفوعة الثمن ليدمرها، وليحول المنطقة إلى أرض للنفايات النووية من أسلحة اليورانيوم المشبع التي لم تعد لها فائدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. أما إيران فكانت مشغولة بنبش التاريخ الإسلامي وكل ما ذكر فيه أساطير وخرافات نسجت حول الصراع سني شيعي، وحول سيرة الحسن والحسين أبناء الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لاستدامة الصراع الطائفي، فوجود عدو خارجي داهم دائم أمر حيوي لاستمرار حكم الملالي الطائفي في إيران، ولاستدامة مهمة الولي الفقيه المقدسة بالأخذ بثأر الحسين!!! لم لا إذا ما كان من يأخذ بهذا الثأر شيعة عرب يقتلون إخوانهم السنة، بينما تساوم هي وتقايض الغرب بمواقفهم وتضحياتهم وجثثهم. خسر العرب العراق، وخسروا سوريا بينما هي تكتفي بتحريك هذا ودعم ذاك.
القضاء على «الشيطان الأكبر» الطائفي الإيراني لا يكون بالعمل العسكري فقط، مع أن المقاومة العسكرية مطلوبة، ولكنه يستلزم تفكيك الأساطير والخرافات التي يرتكز عليها مفهوم حكم ولاية الفقيه، وثارات الحسين وغيرها، وتبيان أنها ليست إلا ستارا لعنصرية فارسية دفينة، فتبيان الوجه الحقيقي لحكم ملالي إيران أمر مهم ليس للعرب فقط بل لملايين الإيرانيين المخدوعين أيضا. وهذا يتطلب جهدا إعلاميا مركزا ومرسوم جهد يعتمد العقل والمعرفة لا الخرافة المقابلة، ويبتعد عن التأجيج الطائفي، فهذه هي أساطير الأولين التي يقتتل المتأخرون من المسلمين حولها.