قَدحُ حَجَري زنذٍ يبدأ النار، إذا ما توفر الهواء، وسلم الحطب من الرطوبة. هذه خلاصة جوهر أصول الفقه التي كانت تدور في عقول صحابة رسول الله، إذا ما استحدث عليهم أمر في دينهم. فصدق عليه السلام «نحن أمة أمية»، وصدق عليه السلام «هلك المتنطعون». قدح حجر الزنذ سَبَبَ إيجاد الأثر - النار - ابتداء، والهواء شرط لها بعد ابتدائها، والرطوبة مانع لها. والتفاعل الكيمائي والفيزيائي الذي خلق الشرارة، هو المفهوم الحقيقي للعلّة الذي وضعه الأئمة في القرن الأول وقصدوا به استنباط الحكم الشرعي عند الحاجة إليه في جديد حدث يطرأ على معاملة، وفيها وجه شبه لمعاملة حادثة منصوص عليها بنص شرعي. فهل يُخلط في هذا ويُستصعب؟ أما فإنه هو الحاصل وهو الغالب وهو المعمول به، بل وأعظم من هذا. فقد اُستبدل السبب بالدلائل التي دلت عليه، فجعلت الدلائل أسباباً وجُعل السبب علة. فهل من منطق في جعل برق ضوء القدح وصوت احتكاك الحجرين، أسباب اندلاع الشرارة! أم أنّ قدح الحجرين هو السبب في الشرارة والصوت والضوء دليلان على عملية القدح؟ وهل عملية قدح الحجرين هي نفس التفاعل الكيمائي والفيزيائي الذي خلق الشرارة أم أن القدح هو سبب التفاعل؟ هل من صعوبة في فهم هذا. فلم يُجعل السفر علة لقصر الصلاة وهو سبب لقصرها، وقد عُلم بالضرورة استحالة معرفة علّتها لكون الصلاة من الغيب الممتنع. (ويكون السفر شرطاً لو كان القصر في السفر رخصة لا عزيمة، فالسفر شرط الجمع لا سببه. فالسبب يوجد مع وجوده الوجود فأثره وهو الحكم الشرعي واجب، لا جائز).
ولنقف هنا! ألم تمتلئ كتب أمهات أصول الفقه بإيراد علل في أحكام العبادات الخالصة، وهي من الغيب الممتنع. بل وأعظم من ذلك، سيجده المتأمل لكتب أصول الفقه. فقد جُعلت دلائل الأسباب عللاً. ألم يضعوا أحكاماً شرعية متعلّلين بالحكمة وبالمناسبة والقصد والغرض والمصلحة وسد الذرائع؟ هذه دلائل أسباب الأحكام لا عللها؟ فالمشقة حكمة دلت على السفر. والسفر سبب القصر. أما العلة الحقيقة فتُكتشف بديناميكيتها التركيبية وهي موضوع آخر، لذا يستحيل اكتشافها في العبادات فهي غيب ممتنع.
السبب والأثر والشرط والمانع، أمور أربعة تحكم حدوث الظاهرة الطبيعية، قد توصل لها الفكر البشري البسيط قديماً عن طريق ملاحظة الظواهر الطبيعة، وهذه الأربعة لا تكشف عن حقيقة جوهر الأثر، وهو النار هنا. فحقيقة النار أمر آخر، وشرارته هي العلة التي اصطلح عليها المسلمون تنظيراً وأضاعوها تطبيقاً. والأثر مهما كان تافهاً، فإن هذا لا يستلزم سهولة معرفة سببه أو أسبابه أو شروطه أو موانعه.
ومن هذه القواعد الأربعة، انطلقت الفلسفة المنطقية العقلية، التنظيرية منها والتطبيقية. وقد توسعت فلسفة مناطقة العلوم المختلفة، مع تقدم العلوم، للبحث عن دلائل تساعدهم في تحديد السبب. فإذا ما عُرف السبب الصحيح وشرطه ومانعه، فقد يُصبح ممن الممكن التأثير على الأثر بتغييره أو تعديله أو إيجاد بديل شبيه به. فالقواعد الأربع قواعد لا تتغير إما لكونها دستوراً كونياً كالطب والهندسة والاقتصاد، أو دستوراً تشريعياً كأصول الفقه والقانون.
وتطوير القواعد الأربع وتغييرها وتعديلها واكتشاف الجديد المخفي منها واكتشاف حقيقة الأثر، هي الأغراض الأساسية للعلوم التطبيقية. بخلاف علم القانون وعلم أصول الفقه. فغرضهما الأساسي هو التأكد من تحقق الأثر بالتأكد من صحة أسبابه وشروطه وخلو موانعه. (وعدم القدرة على تطبيق الأثر هو من موانعه، كتحديد أوقات الصلاة في القطبين والزحام في الحج). أما استنباط أحكام جديدة، فهو إضافة أو تغيير أو تعديل لدستور، شرعي كان أو وضعي، فلا يحصل إلا نادراً وعلى قدر الحاجة، ولا يكون في العبادات مطلقاً. والمعاملات يستجد فيها ويُستحدث ما فيه شبه من معاملات منصوص فيها بنص شرعي. فغرض أصول الفقه هنا، هو التأكد من هذا الشبه في كونه صورياً أو حقيقياً. فإن كان شبهاً حقيقياً اكتسبت المعاملة الحديثة حكم المعاملة الأصل التي تعلق بها نص الحكم. وهذا تشريع بتحليل أو تحريم لم يكن موجوداً من قبل فهو زيادة في الشريعة. وهو وإن كان متفرعاً عن أصل موجود، إلا أنه تشريع جديد وهذا من صفات الربوبية.
هذا ما أفهمه عن أصول الفقه. فإذا ما رجعت لأمهاتها فضلاً عن من دونها تجد خليطاً من القواعد المختلطة بعضها ببعض. فترى وقد أصبح الشرط سبباً والمانع سبباً وشرطاً. وأُهمل الأثر فأصبح تابعاً. وحيث - كما أعتقد - أنّ العلة مصطلح إسلامي في الأصل ولم تأت من الفلاسفة المتكلمين فقد أهملها الأصوليون، وأحلوا محلها طرق الفلاسفة فاختلطت عليهم الأمور. فجعلوا التعليل بالمناسبة والمصلحة والغرض والمقصد، ثم وضعوا لهذا شروطاً أعادت كل هذا لمصطلح العلة. ولعل هذا الانزلاق كان بسبب مجارة المتكلمة، ولكن المصيبة هو أن من جاء بعدهم أخذ هذا اللت والعجن والخلط على ظواهر مفرداته دون حقيقته. فزادوا في شرع الله بأهوائهم متذرعين بمناسبتها أو مقصدها أو مصلحتها دون اعتبار لانضباطيتها في فرع ولا أصل. فلا يخلو كتاب من أمهات أصول الفقه إلا وترى فيه تمثيل علة بشرط أو بسبب أو بمناسبة ليس فيها أدنى انضباطية. فماذا عسى أن يكون نتاج الفقه بعد ذلك؟ بل فكيف هو نتاج المقلدة من بعدهم؟ فالله المستعان، وللحديث بقايا نبقيها لشهر رمضان.