Saturday 28/06/2014 Issue 15248 السبت 30 شعبان 1435 العدد
28-06-2014

ملامح كتاب: كيف تصبح أصولياً فقهياً منطقياً

أصول الفقه من علوم الإسلام، وعلوم الإسلام محدودة بالشرع وبساطة الفطرة، فإن تعدت حدودها وبساطتها، تخبطت فضلت وأضلت، فلا شرع أصابت ولا دنيا. ولا يُنْكَر أن الناس تتفاوت مقدرتهم في صحة الفهم بتفاوت عقولهم، إلا أنه من الممتنع ضرورة، أن يكون في أصل فهم دين محمد النبي الأمي صعوبة لا يقدر على فهمها إلا الفلاسفة والمتكلمة. فلا بدّ من الإقرار بحقيقة الواقع لنُخلِيَ الفهم قبل تحليته. فالواقع لا يخفى على عارف بأن أصول الفقه غالباً ما يكون شعاراً لا تطبيق له. ولا يُحتج به إلا إذا جاء لمصلحة أو انتصار لرأي أو مذهب. وإن كان هناك قلة - قديماً وحديثاً- عرفوا علم الأصول، إلا أنه يَندُر أن يوجد من يُحسن تطبيقه أو يقدر عليه. وما ذاك لصعوبة وعمق علومه، بل لعدم منطقيتها وتضاربها وحشوها بالنقولات والمتناقضات، والاستشهاد بأمثلة شواهدها ضد ما استُشهد له.

وسآتي بمثلين لحكمين فقهيين بعلتين قياسيتين مع قواعدها الأربعة، استشهد بها مختزلاً بشمولية كثير من الشواهد لما سبق.

فالأولى حُكم مَنعٍ بتحريم، منصوص بالوحي على علة الحكم. وهي وإن قد قال بها الفقهاء، إلا أنني لم أر من أكمل تأصيل القواعد الأربعة فيها. وأما الثانية فهي حكم أمر بإيجاب بعلة مستنبطة. وهذه لا أعلم أن أحداً من قبل قد جاء بها كعلة قياسية، وأصل لها ولقواعدها. (ولن أحصي الأسباب والشروط والموانع هنا، وإنما سآتي بأهمها وبالمباشر منه على الحكم، والأبين منه في فك الإشكالات المشهورة).

فالأول في علة تحريم الخمر المنصوص عليها بالوحي بكونها الإسكار أو السكر. وأما السبب المباشر المعروف اليوم فهو الكحول. وأما الشرط فهو إمكانية حصول السُكر من الشيء (أي الفرع)، في مجلس واحد. لقوله عليه السلام ما أسكر قليله فكثيره حرام، (فهذا يخرج الفانيلا ونحوها). وأما المانع لحدوث السبب، فهو طبخه بحرارة تُذهب الكحول منه، الذي هو سببه. (ولاحظ أن المانع يلغي السبب لا العلة. وهذا من اختبارات انضباطية العلة. فالعلة عموماً أعلى رتبة، وهي هنا أخص وأقطع علواً لكونها نصية، مع كون المانع ظني). ولا أعلم أن أصولياً أو فقهياً أكمل التأصيل. فمتى تأصل الحكم تأصيلاً صحيحاً، لم تفت في المسألة شاردة ولا واردة من الوقائع والحوادث. ولا يعتريها تعارض ولا تناقض ولا استثناءات.

والعلة لا تتغير بتغير السبب والشرط والمانع، وهذا من اختبارات انضباطيتها كونها مستقلة بذاتها عن قواعد الحكم. فالإسكار في عصر الوحي كان يحدث من الخمر. فالسبب هو الكحول. والكحول منضبط في السبب لا في العلة. فمن يدري، فقد يُبتكر في الإسكار بسبب آخر، فيبطل سبب الكحول. ولكن علة الإسكار مُطلقة، فينعقد التحريم في الشيء بعلته، أي لإسكاره لا بسببه، فقد يكون بسبب آخر. والتأصيل مهم في القواعد الأربعة، لأنه ينبني عليه حل إشكالات لمسائل فرعية كثيرة. فلا تُقاس -مثلاً- المخدرات المهلوسة أو المُرفعة بشعور سعادة أو هيبة أو غيره على الخمر. ليس لفقدان سبب الكحول، فالسبب لا يُوجِد حكماً جديداً في أمر حادث، بل لعدم تحقق علة الإسكار في هذه المخدرات. فالسُكر غير الهلوسة وغير شعور المخدرات. وينبي عليه أنه لا يُقطع بتحريمها شرعاً، لمن قدر الله حق قدره، فهذا افتيات على الربوبية، بل تُمنع ويعزر عليها بقرارت إدارية من ولي الأمر. فقد يثبت نفعُها مستقبلاً.

وأما الثاني، فهو في العلة الظنية لزكاة الذهب والفضة. وهي في كونها قابلية الذهب للإنماء. وهي علة منضبطة على أشد ما يكون الانضباط. وقد اختبرتها أصولياً بما لم يسبق أن فُعل من قبل في اختبار علة قط. ومحصتُها منطقياً وتحديتها -في ما لحق به إداركي - من التطبيقات الواقعية والافتراضية، (وذلك في أكثر من خمسين صفحة من كتابي القادم). فما زادت إلا انضباطاً وتناسقاً مع الحكم والمقاصد في قديم وحديث حياة الناس واقتصادهم.

فكل مال قابل للتنمية ولا ينمو لوحده ففيه زكاة قياساً على الذهب والفضة. وعلى قدر خوض الفقهاء والأصوليين في تنظيرات العلة والسبب والشرط، ولكن لم أجد أحداً منهم وضع علة لزكاة في أي مال. كما خلط غالبهم بين الشروط والأسباب لوجوبها. وهم مع خلطهم هذا، وضعوا شروطاً غير منضبطة ثم بنوا على شروطهم الظنية، نفيٌ لأحكام نصية شرعية. ومن ذلك ما اشتهر بين غالب الفقهاء في جعل النماء المطلق كشرط للزكاة فيما عدا المعشرات والركاز. وهو شرط باطل في الذهب والفضة، فهي قابلة للنماء وليست بنامية بذاتها. كما أن النماء شرط باطل في الأنعام لعدم انضباطيته. فماذا لو ملك شخص ألفاً من الضأن الرباعية المُخصاة. ففيها زكاة بلا خلاف، وهي لا تنمو بل تنقص.

فالعلة التي ينعقد بها حكم إدخال المال ضمن الأموال الزكوية، هي قابلية النماء. ووأما النصاب فهو السبب الموصل للحكم، فمتى وُجد النصاب وجبت الزكاة. وأما الحول فهو شرط جباية الزكاة، لا شرط وجوبها. -والجباية تكون ذاتية أو من جباة ولي الأمر -. فلا يصلح الحول شرطاً وهو غير منضبط. وذلك لما اتفق عليه الشيخان في حديث تقديم العباس لزكاة عامين، وهو واضح المعنى والدلالة.. ولم تظهر لي موانع تمنع من زكاة الذهب والفضة، وبالتالي ما يقاس عليها بعلة قابلية النماء. فالتكليف ليس بسبب في وجوب الزكاة بدليل حروب الردة وأخذ الرسول وأبي بكر الزكاة عنوة، فلا يُعفى المجنون والصغير. (ولم أر أحداً يستشهد بدليل حروب الردة في مسألة التكليف). وغير المسلم ليس مخاطباً بالزكاة أصلاً، فالإتيان بالإسلام كشرط هو من الحشو، كما أنه من الخطأ لكونه سبباً لا شرطاً. واشتراط الحرية، من الحشو السلبي. فليس هناك منزلة في المُلك بين المنزلتين، فلا حاجة من لت ولا عجن، فمن ملك المال زكاه. (والمُكاتب لا يملك المال بل هو لسيده نصاً وعقلاً، والمُكاتبة عامل تحفيزي وضمان فقط).

والتأصيل للقواعد الأربعة يحل جميع الإشكالات المتعلقة بالزكاة قديماً وحديثاً. والتأصيل قد يكون صعباً ابتداءً، ولكنه متى أُصلت الأحكام حقيقة، سَهُل الفهم المنطقي الإقناعي لعامة المسلمين، وظهر به إعجاز التشريع وصلاحيته لكل زمان ومكان، بدلاً من التناقض الظاهر اليوم في تشريع تقليد الخلط وقياس الشبه.

هذه المقالات الرمضانية هي ملامح كتابي الذي قد دبت الحياة فيه وبانت ملامحه، إلا أنه لم يكتمل نموه، ولا بد عند ولادته من خِداج. هو كتاب في أحكام وحِكم التشريع الإسلامي في المعاملات المالية بواقع الاقتصاد الحديث والقديم. وباستثناء نصوص الوحي، فهو كتاب ليس فيه نقل عن بشر، ولا استعارة مختلسة، ولا تكرار لقول قيل ولو اتفقت معه، فهذا تكفيه إشارة له في الهامش. كتاب مستقل بنفسه، بأصوله التشريعية القديمة وبأحكام واقعه المعاصر الجديد. وإن كان ليس في الدين من جديد، فقد أكمل الله دينه، إلا أن هذا الكتاب جديد كله وبعضه. جديدُه في منهجه التصحيحي للرجوع بفقه الشريعة لوحي النبوة من خلال المعاملات الاقتصادية المعاصرة.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب