هما طريقان لا ثالث لهما.. وهو الزمن الذي يحكم هذه المسيرة..
إما أن ترحل إلى العالم الآخر في عمر مبكر وإما أن يمتد بك الزمن إلى مراحل متقدمة لينالك الضعف والهرم وتصبح غير قادر على إدارة أبسط احتياجاتك، ولابد لك عندها من مُعين، هذا واحد من عناصر متعددة تتحدث عنها رواية الطاهر بن جلّون (ذاكرة أمي تترنح).. ويأتي المرض ليكون هو الأسوأ والأصعب في مسيرة الإنسان ليصبح أشد ضعفاً، هذا أيضاً جانب آخر تطرحه رواية بن جلون.. وقد قضيت وقتاً ممتعاً معها.
تتضمن الرواية سيرة واقعية لوالدة المؤلف (الطاهر بن جلون)، حين يصيبها الزهايمر فتفقد إدراكها، تخلط بين الأسماء والأحداث التي مرت بها، تزداد هذه الحالة وتتفاقم شيئاً فشيئاَ.. وهنا يتعايش المؤلف مع هذا الوجع وهذه الآلام التي تصيب أعز الناس لديه (مؤخراً قرأت في جريدة أن الأشخاص الأميين أكثر عرضة لمرض الزهايمر من الأشخاص الذين سبق لهم أن زاولوا نشاطاً عقلياً كبيراً ومتنوعاً. وفيما يخص أمي، فقد وظفت مخها كله لأجل أن تتصور حياة أخرى وأن تجعلنا في منأى عن الشرور وأن ترانا نكبر ونحن في ظل حمايتها وبركتها، لذلك فمجالها العقلي جدّ ضيق..) تبدو هذه الكلمات مؤلمة وهو يتحدث عن أقرب الناس إلى قلبه (أمه)، تذكر الرواية كثيراً من المواقف لهذه الأم التي توجعه وتعذبه معاناتها ورؤيته لها ضعيفة واهنة، بعد أن كانت شابة جميلة متألقة..
ليس أصعب من لحظة الموت، ذلك الفراق الأبدي، خاصة حين يختطف أعز الناس (أقول في نفسي: النهار أزرق، الفصل أزرق والموت الذي يحوم حول الدار أزرق، لعل اللون الأزرق ينذر باللون الرمادي، لون الشتاء المحزن.) في نهاية الرواية نجد إصراراً وتحدياً وعدم إقرار بالحزن الرهيب الذي تركه ذلك الفراق (إن أمي هنا، أسمعها تضحك وتصلي، أنصت إليها وهي تلح بضرورة ترتيب مائدة الغداء).
الطاهر بن جلون كاتب عربي مبدع، لكن الرواية لاتخلو في بعض الجوانب منها من بعض الحشو والتكرار الذي ربما لم يكن متعمداً من قبل الكاتب وإنما حدث بشكل عفوي، تنتهي الرواية ويبقى حزن ما في داخلي أحاول مقاومته باستسلام لامتناهي بين يدي كتاب يغريني بمرافقته، ففي القراءة راحة واستمتاع وحياة أخرى أكثر ثراء وجمالاً.
))))
«إذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس فلا تخلطنّ بين تبلّد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم»
** محمد الغزالي