كثيرون حولنا يكادون من خلال تناقضاتهم يعانون انفصاماً في الشخصية سواء كان ذلك عمداً أو بدون قصد، يوماً ما جلست بجواري إحدى السيدات السعوديات التي تحضر «الدكتوراه» في بريطانيا وكنا في الطريق إلى هناك، أثناء حديثي معها كانت تتحاشى أن تدلي برأيها في الكثير من القضايا العامة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، ولم يكن يبدو علي بأنني مندوبة للإف بي آي ولا لأي شرطة معلنة أو سرية في العالم!!.. وكما أعلم يقيناً بأن الطابور الخامس قد ولى زمنه، كانت تراوغ وتناور بمنتهى الأدب وبشكل غير مباشر:
أقول لها مثلاً: الشمس جميلة، مشرقة.
تجيبني: هي لذيذة إذا لم تكن ساخنة!
- هل تحبين الشتاء؟
تقول: الربيع ليس سيئاً، هل أجد لديك قطعة لبان؟!
أقرأ في الصحيفة حول البطالة وما يعانيه الشباب من فراغ لهذا السبب، تقول: البطالة مشكلة عالمية، ثم تهمهم ببضع كلمات لا أفهمها!
ننتقل إلى حديث آخر حول معاناة بعض النساء بسبب بعض الرجال الذين يتصفون بالأنانية وظلمهم للمرأة وعدم تقديرهم لها.. فجأة تقول لي: هش.. لاترفعي صوتك هناك رجال في المقعد خلفنا.. أدهشني خوفها خاصة وأني كنت أهمس همساً بالكاد تسمعني هي، أحاول الالتفات حولي: تقول بشيء من الوجل لا.. لاتنظري إلى الخلف!
يا لهذا الرعب الذي يسكنها.. لم أقل ما يخيف ولم أخصص أحداً بحديثي فلماذا كل هذا الحذر الشبيه بمن يعيش أجواء حرب حقيقية؟!
يالغرابة هذه المرأة، حاولت قدر الإمكان اعتقال أسئلتي وبقايا دهشتي وإشغال نفسي بالقراءة بدلاً من الحديث بلا طائل مع هذه المرأة..
الأمر الأكثر غرابة أن السيدة حين هبطت إلى مطار (هيثرو)، كانت تشد «بلوزتها» البيضاء التي بدت جميلة مع البنطال «الجينز» الأزرق فقد حشرت عباءتها داخل إحدى الحقائب.. احترمت حريتها الشخصية ولم أنبس ببنت شفة.
لكنني حين تذكرت رعبها من إعلان آرائها أثناء حديثنا في الطائرة، تأملتها في حيرة وهتفت امرأة أخرى في داخلي بلهجة أخرى (المجد للتناقض، نهارنا أجمل!).
(يا قلبي لو طابَ لي زماني
وأنعمَ الدهر بالتداني
تبسّـمَ الفجر في عيوني
وغرّدَ الطيرُ في لساني)
تناغمٌ رائع ما بين الكلمات واللحن، ما إن تصغي باهتمام وتقول لذاتك: لا .. ليس أجمل من هذا المقطع وتوشك أن تعلن استسلامك، حتى تأتي موجة أخرى أكثر رقة واستبداداً، موجة هي فوق الوصف تتماهى ما بين الحرير والماء، كأنما يترجم هذا المزيج الاستثنائي المثقل بالجمال رقصة المجرات والأقمار والنجوم كأبهى ما تكون.