يقول «الشهرستاني» في كتابه (الملل والنحل) في تعريفه لفرقة الخوارج أنهم: (كلّ من خرج على الإمام الحقّ الذي اتّفقت الجماعة عليه يُسَمّى خارجيّاً سواء كان الخروج في أيّام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كلّ زمان). وأضاف «ابن حزم» في كتابه (الفصل في الملل والنحل) ما نصه : (ويُلحق بهم مَن شايعهم على أفكارهم أو شاركهم في آرائهم في أيّ زمان). كما أنها فرقة من (الغلاة)، يقفون ضد أهل السنة وضد الشيعة أيضاً، وقاتلوا هؤلاء وهؤلاء؛ وغلاتهم أقرب إلى غلاة التوجهين، السني والشيعي المعاصرين؛ لكنهم أقرب إلى غلاة أهل السنة ومتطرفيهم.
وهم تاريخياً فرقة سعت منذ البداية إلى (تثوير الإسلام)، والتمرد على السلطة الحاكمة؛ والراجح أنها خرجت أول ما خرجت، في نهايات ولاية «عثمان بن أبي عفان»، ثم خرجت على «علي بن أبي طالب» لقبوله بالتحكيم، ثم على «معاوية بن أبي سفيان»، وبقية بني أمية؛ وكان أكثر الخلفاء تعاملاً متسامحاً معهم هو علي ابن أبي طالب؛ فقد قال لهم حين رفعت الخوارج شعارها (لا حكم إلا لله) حسب ما جاء في كتاب (المبسوط) للإمام «السرخسي» الحنفي ما نصه: (كلمة حق أريد بها باطل لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولن نمنعكم الفيء مادام أيديكم مع أيدينا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا). غير أن هذا العرض (المتسامح) والموضوعي حتى بمعايير اليوم، لم يجد آذاناً صاغية منهم، وأصروا على القتال، وفرض آرائهم بالقوة.. وعندما قتلوا «عبدالله» ابن الصحابي «خَبّاب بن الأرت» وبقروا بطن (سِريّته) وهي حُبلى، نتيجة لنقاش فكري دار بينه وبينهم، طالبهم علي بن أبي طالب بقتلته وقتلة جاريته، إلا أنهم رفضوا، وقالوا مقولتهم الشهيرة: (كلنا قتلة وكلنا مستحل دمائكم ودمائهم)، ما جعلهم بمقاييس ذلك الزمان (ثوريين متطرفين) فعلاً، فلم يرضوا إلا بحل واحد مُؤداه: الإسلام هو ما نراه، وإلا فالسيف بيننا وبينكم؛ فأعطوا لمن يناوئهم السبب والعذر والشرعية أن يقاتلهم، فوقعت معركة (النهروان) الشهيرة بينهم وبين السلطة الشرعية حينها المتمثلة في علي بن أبي طالب.
ومثلما أن حركات التشدد والتزمت والتطرف والراديكالية تُنتج حركات أشد تطرفاً منها، وهكذا دواليك، فقد انتهت الخوارج يفرقة (الأزارقة) التي كان يتزعمها «نافع بن الأزرق»؛ هذه الفرقة من الخوارج كانت في منتهى التطرف والغلو والدموية في كل اختياراتها الفقهية، تتفق مع أسلافها في جواز الخروج على السلطة الحاكمة، إلا أنها أشد تطرفاً في إراقة دم حتى مع من يتفق معهم، إذا لم يُقاتل لتحقيق أهدافهم.
يقول عن ابن الأزرق صاحب (كتاب الأديان) الذي هو بالمناسبة (أباضي) المذهب: (أول من خالف اعتقاد أهل الاستقامة وشق عصا المسلمين وفرق جماعتهم؛ وانتحل الهجرة وغنم أموالهم وسبى ذراريهم) ويقول كذلك: (وتبرأ من القاعد - (من يقعد عن الجهاد معهم) - ولو كان عارفا لأمره تابعا لمذهبه، واستحل استعراض الناس بالسيف، وانتحل المُهجرة _ (من هجرهم وانشق عنهم) - وحرم مناكحتهم وذبائحهم وموارثتهم وابتدع اعتقادات فاسدة وآراء حايدة، خالف فيها المسلمين وأهل الاستقامة في الدين).
ومثلما أنتجت ثقافة التطرف الخوارج، وأنتجت الخوارج فرقاً متعددة، ثم ولدت الأشد تطرفاً فرقة الأزارقة، قامت حركة الأخوان التي أسسها «حسن البنا» وأنتجت (الأخوان البنائيين) ورفعوا شعار (الإسلام هو الحل)، وهو ذات شعار الخوارج (لا حكم إلا لله)، ثم أنتج حسن البنا «سيد قطب» (الإخوان القطبيين)، الذي استعار من سلفه الخوارج فكرة (تكفير المجتمعات الإسلامية)، ثم أنتجت القطبية حركة (القاعدة) الأشد تطرفاً ودموية من الإخوان البنائيين والإخوان القطبيين معاً، ثم أنتجت القاعدة نفسها حركة (داعش)، التي هي - أيضاً - أشد تطرفاً واستحلالاً للدماء من حركة القاعدة بمراحل، وتُكفر وتستحل دم كل من كان على غير نهجها، حتى المنتسبين إلى الإخوان، بنائيهم وقطبييهم معاً، وكذلك القاعديين، إضافة إلى الشيعة قاطبة أيضاً؛ فحركة (داعش) بالمناسبة هي أكثر الحركات المعاصرة شبهاً بالأزارقة وتماهياً معهم، وكل الجماعات التي خرجت من عباءة جماعة الأخوان يختلفون في التشدد والتطرف، إلا أنهم جميعاً يتفقون مع الحركة (الأم) الأصلية في جواز الخروج على من في يده السلطة، وخلع ربقة البيعة، ولا يكترثون (إطلاقاً) بالضوابط التقليدية لأهل السنة والجماعة في الالتزام ببيعة الأمام، برّاً كان أم فاجر؛ خوفاً من الفتن والاضطرابات وإراقة الدماء؛ فهم لذلك (خوارج العصر). حسب تعريفات السلف التي ذكرت آنفاً، وحسب ممارساتهم السياسية الفعلية في الوقت الحاضر، وحسب موقفهم من أهل السنة والشيعة كذلك، وحسب ما آلت إليه النتائج في نهاية ما يسمى الربيع العربي.
ولعل ما نراه الآن ماثلاً أمامنا في سوريا والعراق وليبيا، وما تمارسه هذه الحركات من قتل وتدمير، هو التفسير العملي والمحصلة النهائية لتفسير معين للدين عندما (يُسيّس و يُثوّر) كما ينادي به (الخوارج) سلفهم وخلفهم معاً، وليس من عاصر و رأى بعينيه كمن قرأ أو سمع
إلى اللقاء.