يقول تلميذ في الثامنة من عمره (من يدري؟ ربما لن تكون هناك كهرباء في المستقبل، لو حدث هذا، سأقدر على كتابة دروسي وكتابة خطابات لأصدقائي).كان يتحدث عن الكتابة بخط اليد بدل الاعتماد على لوحة المفاتيح في الحاسوب، أين يعيش هذا الطفل يا ترى؟
هل هو في بغداد أو في زنجبار، أم في نواكشوط مثلا لا حصرا؟، اإنه طفل أمريكي في ولاية نورث كارولينا وهي واحدة من سبع ولايات أمريكية تمردت على النسق التعليمي هناك وأدرجت مادة الخط والكتابة اليدوية ضمن مناهجها الدراسية. حقيقة لا أخفيكم أني بعد قراءة هذا الخبر شعرت بالخجل، كيف أن هذه التقنية التي هبطت علينا اختطفت منا أشياء جميلة، ربما التواصل الإنساني أهمها ورفقة الكتاب من بينها، واستعمال القلم أحدها، رسول العلماء وأداة عشاق المعرفة و أحد هذه المهارات الحياتية التي شوهتها هذه التقنية.
يقول إقليدس (الخط هندسة روحانية)، وأنك حين تقرأ خطا يتصف بالوضوح وسلامة اللغة والجمال تستشعر حصافة صاحبه ورقي نفسه. يقول فيليب هنشار الذي ألف مؤخرا كتاب (الحبر المفقود، فن الكتابة باليد الذي تلاشى)، ((لقرون ظل الناس مفتونين بالخط المكتوب ليس فقط فنون كتابته ولكن أيضا تحليله وتحليل الذين يكتبونه، لقرون قبل ظهور علم النفس كان الخط المكتوب يستعمل لتحليل شخصية صاحبه ودراسة الاختلافات والتغييرات الثقافية والحضارية جيلا بعد جيل)). يعرض الكتاب في فصوله لتاريخ الخط والكتابة اليدوية والكشف عن صاحب الخط وأمثلة على كتابات الروائي الانجليزي تشارلز ديكنز وكتابة هتلر، ويعرض لتاريخ الحبر والقلم كما يعنون الفصل الأخير بـ(ماذا نفعل لإنقاذ الخط المكتوب). تم اختيار عنوان الكتاب بذكاء (الحبر المفقود missing ink) قريبا من عنوان كتاب (الحلقة المفقودة missing link) لفتا وتحفيزا للانتباه وكما هي سمة الأمريكيين للجذب والتبسيط واستخدام النماذج التاريخية المشهورة لإسقاطها على الأمور والقضايا المستجدة. وعندما نتأمل في اهتمام مجتمع حاضن للتقنية ومصدر لها كما انه مجتمع رأسمالي وعلماني بحت بهكذا أمر قد ينظر إليه بعضنا للأسف نظرة استصغار بحكم أن التقنية الآن تغني عن القلم وكتابة اليد، عند تأمل هذا الأمر لعل القارئ بين السطور يستنتج أن الحضارة تراكم لمكونات تعليمية وثقافية وصحية وصناعية وغيرها من مكونات حضارة أي امة، حتى إن مثل هذه المجتمعات المتقدمة تحرص على الحفاظ على الماضي ومكتسباته والاحتفاء به، وما ثقافة المتاحف والمعارض الفنية والثقافية إلا دليل ناصع على ما نقول، واهتمام المجتمع الأمريكي أو بعضه والتفاتته إلى مسألة الخط والكتابة اليدوية أقرب دليل. وبالطبع لا ينكر حتى عقلاؤهم ومثقفوهم ما تواجهه مجتمعاتهم تلك من مشكلات أخلاقية وظواهر اجتماعية سلبية، فهي ليست مجتمعات مثالية، إنما هناك مكاشفة على الأقل وبحث ومحاولة للحلول.
خط اليد فن ارستقراطي حرص عليه الملوك والرؤساء والنبلاء لذلك عينوا له من كان القلم طوع بنانه، واحتل الكتاب في عهود الملوك في العالم والخلفاء المسلمين مكانة مرموقة وكانوا كاتمي أسرارهم وموضع ثقة لديهم. يقول الدكتور وليام كليم الأستاذ الجامعي في علم النفس (إن للكتابة باليد فوائد نفسية، فالتنسيق بين اليد والعين ميزة تطويرية هامة، خاصة للأطفال، كما توجد فوائد ذهنية تنموية للكتابة باليد).
جون مورغان أحد أثرياء أمريكا في القرن التاسع عشر ومؤسس بنك (جي بي مورغان) الأمريكي، أسس مكتبته الخاصة والضخمة والتي أصبحت متحفا كبيراً اليوم، وهي تحوي مجموعة ضخمة من الكتب مكتوبة بخط اليد حتى بعد اختراع الطباعة، إذ كان يحرص على اقتناء الكتب المؤلفة بخط يدوي جميل !، فتأمل هذا الالتقاء بين عالم المال وعشق الفكر والثقافة وعراقتهما. تقبل الله صيامكم.