من المعلوم أنه خلال العقدين المنصرمين زادت وتيرة السفر على مستوى العالم، كل حسب غرضه من ترحاله، فمن باحث عن لقمة عيشه، ومن فار من حرب أو نزاع في بلده، ومن قاصد جامعة عريقة للدراسة والبحث، إضافة إلى باحث عن ترفيه وسياحة، ولعل هذا الصنف يغلب غيره في فترة الصيف خاصة،
فصل الانطلاق والاستجمام والراحة بعد عناء العمل والروتين وضغط إيقاع الحياة، وللحق أحسنت وزارة الخارجية حين شرعت في بث رسائل التثقيف للجمهور عبر الهواتف المحمولة بخصوص مراعاة أنظمة وقوانين الدول ووجوب توخي الحذر لتجنب المسؤولية القانونية حيال أي تصرف غير مسؤول، وهذا ماكان منتظرا من الوزارة منذ سنوات لأن الغفلة من طبائع البشر،كما وأن الوعي القانوني غير متيسر لكثير من الناس، عدا عن التفاوت في الوعي والثقافة بشكل عام بين البشر.
في هذا المقام يحضرني قصة طلاب سعوديين مبتعثين إلى امريكا يغلب على ظني أنهم ابتعثوا بعد الثانوية العامة في بداية برنامج خادم الحرمين قبل سنوات، وقفوا مرة بانتظار الحافلة كي تقلهم إلى مقصدهم في إحدى المدن الامريكية، وصلت الحافلة فاستقلوها، فما كان من السائقة الا أن أوقفت الحافلة جانبا واتصلت بالشرطة، فانتبه هؤلاء الشبان السعوديون إلى أنهم استقلوا حافلة تلاميذ مدارس صغار، وعندما حضرت الشرطة بعد بلاغ السائقة التي ظنت أنهم يحاولون التخريب أو اختطاف الحافلة، سألت الشرطة الطلاب عن جنسياتهم فأخبروا الشرطة بأنهم غير سعوديين ارتباكا وسوء تقدير للأمور فاعتبرت فيما بعد بأنها تضليل للشرطة مما أدخلهم في ورطة قانونية، بينما هم استقلوا الحافلة بطريق الخطأ ودون قراءة ماهو مكتوب عليها بدقة، فانظر كيف أدى خطأ بسيط في البداية مع عدم استدراكه وشرح المقصد بكل صدق إلى هذه الورطة التي وقع فيها أولئك الشباب. وظني أن مثل هذه الحوادث وغيرها هي ماحدا بوزارة التعليم العالي على قصر الابتعاث على مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ماعدا طلاب الثانوية المتفوقين والراغبين في دراسة الطب وما يلحقه من تخصصات يحتاجها الوطن.
يعجبني بيت في معلقة زهير بن أبي سلمى المزني حين يقول:
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لايكرم نفسه لايكرم
هذا الفكر الانساني الراقي الذي ينفذ إلى أعماق النفس البشرية برغم أن هذا الشاعر عاش في فترة الجاهلية وفي بيئة الجزيرة العربية في تلك الفترة الموغلة في القدم، ومع ذلك طرق مسألة الاغتراب والسفر وما يحدثه في النفس من طوارئ ، إذ يغفل المرء وقد تنطلي عليه أمور لايحسب لعواقبها حسابا حتى إنه يلتقي انسانا في غربته ويظنه مؤهلا ليكون صديقا بينما هو يضمر له الشر والعداء من قصد سرقته أو الإضرار به. وهناكم من الحوادث التي نسمع بها لأفراد أو عوائل نتيجة الثقة المفرطة او مجانبة الحذر في التعامل مع أي امرئ كان، ثم إن هذا الشاعر الفذ طرق باب الخلق وإكرام النفس بالبعد عما يدنسها وإلا لاقت جزاء من جنس عملها، فالمرء حيث يضع نفسه كما قالت العرب، فلا ينتظر من أهان نفسه أن يكرمه الآخرون، فيا لهذا الشاعر وبحر فكره ورهافة حسه الانساني .
السفركما أنه متعة هو ثقافة وتمثيل للمجتمع والبلد، وسفارة من غير تعيين، وتصرف لبق وحضاري يعطي صورة صادقة وحضارية تغني عن كثير من الوسائل للمجتمع والبلد للآخرين شرقيين وغربيين، بل وتعود على الدولة والمجتمع بآثار ايجابية عظيمة وتندرج ضمن ( القوة الناعمة )، وما الطلبة والطالبات السعوديون المبتعثون الذين لفتوا انتباه الدوائر الاكاديمية والجامعات في أمريكا وأوروبا وآسيا بتفوق الكثيرين منهم وحسن تفاعلهم مع المجتمعات المضيفة لهم إلا تجسيد لهذه الحقيقة. هم سفراء لبلدهم ومجتمعهم، وكذلك هم الألوف المؤلفة من المصطافين الذين يحزمون الآن حقائبهم للسفر، طابت أسفاركم وصحبتكم السلامة في حلكم وترحالكم.