ندنو من البداية الفلكية لفصل الصيف (21 يونيو) أي يوم السبت المقبل بمشيئة الله تعالى، ومع ذلك فهو قد بدأ لدينا نهاراً على وجه الخصوص. ومع حرصي في العادة على الابتعاد فيما أكتب عما يثقل على قلب وفكر القراء الأكارم فإني أشد حرصاً هذه الأيام، فمع حلول هذا الفصل أحسب أن القارئ يرغب في الخفيف من المواضيع لذا أرجو أن يكون حديثي هذا خفيفاً قدر الإمكان على قلوبكم.
قبل أيام كنت في حديث مع أحد الأصدقاء عن الرياض قبل أن تتمدد وتغدو مدناً في مدينة، يوم كانت مدينة هادئة تخطو نحو البناء بتؤدة وروية دون صخب وزحام وتلوث، وبالذات فترة أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات الميلادية. حينها كانت لا تتوفر على ما لديها اليوم من مشاريع ومرافق وأسواق وغيرها، وهذا معروف للجميع، لكنها كانت في تلك الفترة أكثر إحساساً بالحياة ربما، وبلا شك أن لكل شيء ثمنه، ولكل تطور وتغيير ضريبة، ومن السطحية أن نعتبر أن الماضي كله جميل، وأن الحاضر بما فيه كله جفاف ومادية.
الأمم المتحضرة من تأخذ من ماضيها أجمل ما فيه من إنجازات ورموز بشرية أو مادية لتكون مشاعل لبناء الحاضر واستشراف المستقبل. حركت شجون ذكريات الطفولة والمراهقة ورياض تلك الفترة الحماس لدى صديقي فاقترح أن نقوم بجولة مسائية في أحياء العاصمة العتيقة، ولشد ما تثيره كثير من المنازل في تلك الأحياء والتي بني بعضها في فترة الستينات الميلادية من مشاعر وكأنها تتحدث إليك عندما تمر بها حديثا لا يخلو من الحزن والأنين، جراء تركها وإهمالها وقد مات النخيل في باحات بعضها وهو واقف. مثل هذه البيوت أو القصور العتيقة تشكل سجلاً تاريخياً واجتماعياً يجدر بهيئة السياحة استغلالها وإعادة الحياة إليها بالاتفاق مع ملاكها أو شرائها وتحويلها إلى أندية ثقافية ومراكز حضرية ومقاهٍ ذات طابع تراثي تحفظها وتعيد إلى أفراد المجتمع ذاكرتهم التاريخية. وهذا ينطبق على باقي المدن والبلدات وللحق فإن الهيئة تعمل ولا ينكر جهدها إنما لا يزال الطريق أمامها طويلاً لأن الإرث كبير من آثار ومعالم قديمة وعريقة. ومعلوم أن الطفرة الأولى (بدأت عام 1975) والثانية (عام 2000) وما تزال مع ما صاحبهما من أعمال حفر وهدم وبناء مستمر ومحموم إلى هذه اللحظة، كل ذلك شغل البلد عن تراثه فترة ليست بالقصيرة، حتى بدأت صحوة والتفاتة إلى هذا التراث من قبل الأهالي في عدة مدن ومعهم هيئة السياحة والآثار. أعود إلى البيوت العتيقة في تلك الأحياء العريقة من العاصمة إذ مما يلفت فيها تصاميمها وطريقة بنائها والتي تحمل سمات ولمسات معمارية تضفي عليها حميمية وجمالاً بعيداً عن التكلف كما يحمل سمات عمرانية شبيهة بقاهرة وبيروت الستينات الميلادية، أي أنه عمران له هوية وطابع عريق وجميل. وهنا يعاودنا السؤال القديم الجديد وهو هل لمدننا السعودية هوية عمرانية؟، وهل لبيوتنا شيء من السمات العمرانية التي تلائم بيئتنا كما كانت عليه بيوت الطين من ملاءمة بيئية واجتماعية تكشف عن الذكاء الفطري لبنائينا الأوائل حسب إمكانياتهم في ذلك الزمن؟. بالطبع ليس هذا نكوصاً إلى الوراء ولا (ماضوية)، إنما هو التنادي إلى تفقد الهوية العمرانية واستلهام روح العمارة العربية والإسلامية، وإلا كيف تحافظ بعض مدن جنوب إسبانيا وصقلية في إيطاليا على التأثير العربي والإسلامي العمراني ونضيعه نحن؟!.. في رعاية الرحمن.