من قرأ تاريخ أوربا في القرون الوسطي سيجد أن الأوربيين كانوا قد مروا بالتطاحن الطائفي والمذهبي ثم اكتشفوا أن الحل هو في (التعايش رغم الاختلاف) فانبثقت أنوار عصر النهضة. والتاريخ الإنساني لكل أمم الأرض قاطبة يشهد بأن أغلب الحروب والدماء والتطاحن الديني أو المذهبي كان قد أشعله وشجعه وحرض عليه رجال دين (كهنوتيون)، يدّعون أنهم لا يمثلون أنفسهم، وإنما يمثلون الله جل وعلا في الأرض، فمن أراد أن يضمن الحياة الآخرة من طائفتهم، فليتخذهم وسطاء وأولياء، يتّبعهم في حياتهم، ويتمسح بقبورهم ويردد أقوالهم واجتهاداتهم إذا ماتوا، وليزهد في الحياة، ويُضحي بنفسه، ولا يُعمّر الدنيا، ولا يحفل بها، وسوف يضمن بتلك التضحيات ليس دار المرور العابرة الفانية، وإنما دار البقاء إلى الأبد.
دين الإسلام نَبّهَ بوضوح إلى أن من أسباب انحراف الأمم التي قبلنا كانت (الكهنوتية). قال تعالى عنهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ وكانت هذه الكهنوتية المقيتة واضحة جلية عند الرعيل الأول من الصحابة الذين عايشوه صلى الله عليه وسلم، ورووا الحديث والسنة النبوية عنه، ومن ذلك قصته مع «عَدي بن حاتم الطائي» قبل إسلامه، عندما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عنقه صليب من ذهب؛ فقال له الرسول: (يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك)، فطرحه ثم انتهى إليه وهو يقرأ: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} حتى فرغ منها، يقول عدي: قلت له: (إنا لسنا نعبدهم)، فقال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه)؟ قال عدي: (قلت: بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
أريد من القارئ الكريم أن يُقارن مدلول الآية الكريمة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم بمن يُفتي ويأمر كوادر هذه الحركات المتأسلمة أن تفعل كذا وكذا دون دليل، أو بعد لي أعناق الأدلة وفبركتها لتدعم فتاويهم؛ حتى أن الانتحار - مثلاً - الذي ورد تحريمه في نص واضح جلي في كتاب الله، عارضوه على رؤوس الأشهاد، ولفوا وداروا، واستعانوا بحيلٍ فقهية ما أنزل لله بها من سلطان ليعطلوا النص القرآني بالتحريم، ويدفعون كوادرهم من السذج والبسطاء ليتعمّدوا قتل أنفسهم وقتل غيرهم، وعدم الاكتراث بأمره جل وعلا الذي يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، فهؤلاء المشايخ (عملياً) اتخذهم أتباعهم (أرباباً) من دون الله، يطيعونهم فيما حللوا أو حرموا حتى وإن خالفوا نصاً صريحاً في القرآن.
وسأورد هنا فتويين هما أس البلاء وأصل الداء، فيما نشهده من دماء سواء في العراق أو سوريا أو في أفغانستان أو باكستان؛ واحدة صادرة من فقيه (كهنوتي) سني، والأخرى من فقيه (كهنوتي) شيعي؛ والفتويان تُحرضان على القتل والغدر صراحة ودون مواربة:
الفتوى الأولى (السنية): فتوى يوسف القرضاوي بجواز الانتحار، وسماه ظلماً وبهتاناً وزوراً (استشهاد)، ولم يكترث بحرمة الانتحار نصاً في القرآن، ناهيك عن تعارضه الصارخ مع حديثه صلى الله عليه وسلم : (الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)؛ والفتك أن تأت لغافل على حين غرة فتغتاله؛ كما يفعل الانتحاريون من الإرهابيين.
والفتوى الثانية (الشيعية) : فتوى جواز قتل المخالف؛ فقد جاء في كتاب (وسائل الشيعة) ما نصه: (عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب؟.. فقال: حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك).. وعلق الخميني على هذا الحديث المفبرك بقوله: (فإن استطعت أن تأخذ ماله فخذه، وابعث إلينا بالخمس). والناصبي في قواميسهم الفقهيّة هو المسلم السني.
والسؤال الذي يثور هنا بقوة: ما الفرق بين القرضاوي الكهنوتي السني، والخميني الكهنوتي الشيعي؛ أليس ما يقترفه الاثنان محض (كهنوتية) حذّر منها القرآن الكريم نصاً، واعتبرها من ضروب الشرك؟
كل ما أريد أن أقوله هنا: ألا فرق بين داعش (الكهنوتية) السنية الطائفية، ونوري المالكي الشيعي الطائفي؛ فكلاهما في التحليل الأخير منتجان لعملية (كهنوتية) واحدة، وان اختلفت الطائفتان.
إلى اللقاء.