في عام 1963م قُضِي على الزعيم عبد الكريم قاسم. وأتت سنوات قليلة تَولَّى حكم العراق فيها عبد الرحمن عارف، الذي عَهِد برئاسة الوزارة إلى رجل القانون المُخلِص عبد الرحمن الَبزَّاز. ودَبَّ الأمل في النفوس. غير أن عبد الرحمن عارف أطاحت به
عصابة من رؤسائها صَدَّام حسين، الذي اتَّضح أنه وبال على أُمَّته كلها لا على العراق فحسب؛ فقد وَرَّط بلاده وأمَّته بالحرب مع إيران. على أنه خرج من تلك الحرب المنهكة منتصراً إلى حدٍّ ما.
وكان أعداء أُمَّتنا يراقبون كل ذلك أَدقَّ مراقبة؛ فقد أصبح لدى العراق جيش قويٌّ، لا بأعداده وتسليحه فحسب بل بكونه مارس حرباً بمختلف الأسلحة أكثر من ثماني سنوات متواصلة. وكل ذلك يجعل العراق الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الدولة الصهيونية كما اعترف بذلك السيد جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا، وقال: إن القضاء على قوة العراق خدمة كبرى لإسرائيل. ولذلك كان لا بُدَّ - في نظر أولئك الأعداء - من القضاء على ذلك الخطر بكل الوسائل.
وفي عام 1989م بعث صَدَّام رئيس استخباراته إلى مدريد للقاء رئيس استخبارات أمريكا، الحليفة القوية المخلصة للدولة الصهيونية. وهناك أثيرت مسألة الخلاف بين العراق والكويت. فقال رئيس الاستخبارات الأمريكي: إن هذه المسألة مسألة عربية ولا دخل لأمريكا بها.
ففهم الدكتاتور المتغطرس صَدَّام من تلك الإجابة أن أمريكا لا تعارضه في أَيِّ إجراء يَتَّخذه ضد الكويت. وهذا الجواب كرَّرته سفيرة أمريكا في العراق فيما بعد.
وهكذا حدث التورُّط في ارتكاب جريمة غزو الكويت واحتلاله، وكان هذا مما مَهَّد للقضاء على قوة العراق.
وقد تَمَّ القضاء على تلك القوة على مرحلتين: الأولى تَزعُّم أمريكا للقوة المتحالفة التي أخرجت قوات صَدَّام من الكويت في معاقبة الظالم المحتل. وإخراج قوات المحتل عمل مُبرَّر.
والمرحلة الثانية مشاركة بريطانيا في غزو العراق واحتلاله بناء على مزاعم باطلة بامتلاكه أسلحة دمار شامل. وما بني على باطل فهو باطل. وقد أَدَّى افتضاح تلك المزاعم إلى استقالة وزير خارجية أمريكا.
وكانت قيادة وطننا العزيز، التي كانت لها يد طولى في إخراج قوات صَدَّام من الكويت، قد حَذَّرت من عواقب وخيمة ستنتج من غزو العراق واحتلال أراضيه. وخلال اثنتي عشرة سنة من إخراج قوات صَدَّام من الكويت مُحطَّمة عانى الشعب العراقي ما عانى من ضيق الحصار وويلاته؛ إذ مات أطفال قُدِّروا بمئات الآلاف.
وانتهى عهد صَدَّام بما أَدَّت إليه سياسته الهوجاء من ويلات لتبدأ مرحلة الاحتلال الأمريكي، الذي شاركت بريطانيا في ارتكابه.
وفي هذه المرحلة تكشَّفت أمور، منها أن الاحتلال الأمريكي سمح بأن تدخل قوات معادية لأُمَّتنا من إيران بكامل أسلحتها. ومن تلك القوات من هم عراقيون موالون لإيران ومن هم إيرانيون أصلاً.
وأصبح حاكم العراق المُتحكِّم بجميع مفاصل الحياة فيه بريمر، الذي وضع دستوراً طائفيّاً للعراق، وقال لأول رئيس وزراء عراقي شيعي، وهو الجعفري: يجب أن تشكروا أمريكا، التي سلَّمت الحكم لكم - أَيُّها الشيعة- وهو الأمر الذي لم يتهيَّأ لكم طوال ألف عام.
وكان من الذين كذبوا وأَكَّدوا وجود أسلحة دمار شامل لدى صَدَّام حسين عراقي خائن اسمه الجلبي.
وكنت قد أشرت في أبيات من قصائد عدة إلى تلك الأحداث.
ومن ذلك ما ورد في قصيدة عنوانها «نَهرٌ من العجب»:
من يكابرْ في تجاهله
حَيْفَ أمريكا على العَرَبِ
فهو جافٍ عند أُمَّته
موجباتِ الدين والنَّسبِ
مثلُ من قد باع مَوطنَه
لذوي الطُّغيان كالجلبيِ
كُلُّ من في الأرضِ قد علموا
سادةَ التزييفِ والكَذِبِ
ورأوا بَلْوى جرائمهم
تملأ الدنيا مدى الحقبِ
***
والذي قد مَسَّ مهجتَّه
لَوثةٌ من فاتكِ الوَصَبِ
لا ترى عيناه ما ارتكبت
من صنوفِ البطشِ والسَّلَبِ
دولةٌ ساداتُها جعلوا
ذُلَّنا نوعاً من الطَّربِ
وإذا لِيمتْ على صَلَفٍ
ثار بركاناً من الغَضَبِ
يا زماناً بات ممطره
إذ همى نهراً من العَجَبِ
كيف لا يبدو لناظره
ما بدا من جُرْمِ مُغتَصبِ!
سُلِّمت بَغدادُ في طبقٍ
(لعلوجِ الحقدِ) من ذَهبِ
وتلظَّى في مرابعها
مستطيرُ الرُّعب من لَهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حلمتْ
فيه من مُستَعذَبِ الأَربِ
ومن ذلك:
المشفقون على دار السلام عَلَتْ
وُجهوهم من مآسيها تجاعيدُ
جحافل الموت قد حَلَّت بساحتها
وضِيمَ في لا بيتها أهلها الصِّيدُ
وملتقى الرافدين المُستطابُ غدا
فيه لأقدام مُحتليه تَوطيدُ
أين المفر؟ وهل في الأُفْق من أَملٍ
يُرجَى؟ وهل يعقب التمزيق توحيد؟
وما ارتُكِب من جرائم شنيعة في العراق في ظِلِّ الاحتلال لا يستطاع وصف شناعتها. ومن أمثال ذلك ما ارتُكِب في سجن أبو غريب، وما ارتكبه - ولا يزال يرتكب أمثاله - المالكي رئيس وزراء العراق الحالي من جرائم ضد الفلوجة والأنبار بخاصة أمرٌ ما زال يشاهده الجميع.