تجاهل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الدعوات الأميركية والأوروبية لتشكيل حكومة شراكة وطنية قوية لمواجهة التداعيات الأمنية في البلاد، وخرج بتصريحات تنسف تماماً هذا الاحتمال. كما شن المالكي هجوماً عنيفاً على خصومه السياسيين الذين سمّاهم
بـ«المتمردين على الدستور»، في إشارة إلى رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، ورئيس البرلمان أسامة النجيفي. وفي مؤشر قوي على تمسكه بسعيه إلى ولاية ثالثة، رفض المالكي الدعوات إلى تشكيل حكومة الإنقاذ الوطني بوصفها «محاولة للقضاء على التجربة الديمقراطية الفتية والالتفاف على الاستحقاقات الدستورية»... وهذا كله خطأ فالعراق في حاجة إلى ميثاق تعاقدي سياسي يجمع كل مكوّنات العراق للخروج من الأزمة الخطيرة على العراق وعلى المنطقة. وتثبيت الانفتاح السياسي يبقى رهيناً بالمسار الذي يعطيه الفاعلون للتحول: فإما أن يؤدي بالبلاد والعباد إلى بر التغيير الجذري الذي يخلق منظومة معرفية وتطبيقية سياسية كاملة حول التعاقد والمواطَنة، وإما إلى وادٍ غير ذي زرع من سلطوية جديدة.
والأجدر بالفاعلين الكبار عندما تصل دولة من الدول إلى نقطة التحول السياسي، هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد، وتصور قوانين توافقية جامعة وإعمالها بطريقة سريعة ومرْضية للجميع.
وتبقى آليات الانتقال عبر التوافق التعاقدي كما كتبنا الأسبوع الماضي، الانتقال الصحيح الذي ينطبق عليه مفهوم عقلنة التغيير الكفيلة بإحداث ثورة سياسية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى والمجهول، وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكاً وأكثر خديعة ومكراً.
وهاته وغيرها إشكاليات إذا تمّت الإجابة عليها بطريقة علمية وتم تبنّيها، تحققت نهضة العراق وتقدمه وتطوره المجتمعي والاقتصادي والسياسي والحضاري.
والتطور عملية ممكنة ودائمة وهي سنّة الله فوق الأرض منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وتكون نتائجها قابلة للتنبؤ في الكثير من الأحيان؛ فالبقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمتقلّبة ونفس الشيء في المجال السياسي، فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة. وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلاً؟ لأنها لم تستطع التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية؛ وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية.... ثم لماذا انهارت أنظمة مثل نظام القذافي وبنعلي ومبارك وصدام وغيرها؟ لأنها لم تستطع التكيف مع متطلبات عصر تغير فيه كل شيء، كما تجاهلت قواعد السياسة وطبائع الأجيال والموجودات، وأهملت تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ وهاته المسألة كما يقول ابن خلدون (داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال؛ وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنّة الله التي قد خلت في عباده ...)..
ثم إننا ننتمي إلى عالم معولم يتغير بسرعة ونعيش أكثر من أي وقت مضى تحت سقف واحد، ونرى شاشات تلفزية متنوعة تنقل إلينا أخباراً متعددة وصوراً متنوعة، وتختلف وجهات نظرنا وردات أفعالنا حسب التكوين والبيئة إلى غير ذلك؛ فلم يكن العالم يوماً قاراً أو ساكناً فانتفض فجأة لا ! ولا الكرة الأرضية على ثبات وإذا هي تتحرك فجأة ! ولكن العالم يتراءى إلينا وهو يتغير بسرعة كبيرة وبوتيرة أعمق، ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ لذا فالحيرة تصيبنا عندما نريد أن نقوم بتحليل لنظام إقليمي أو دولي هما في جوهرهما متغيران وانتقاليان على الدوام، ونسعى أن نتوقع نظاماً دولياً أو إقليمياً لهما قدر كاف من الاستقرار والثبات؛ ومن هنا نفهم محدودية تلك النظريات في مجال العلاقات الدولية التي تذبل قبل جفاف الحبر الذي كتبت به، والأفكار التي تولد ميتة؛ والنتيجة أن العالم أصبح أكثر ضبابية مع انتهاء الحرب الباردة وتقلّص الدور الروسي في العالم ونهاية الثنائية القطبية وانتقاله إلى الأحادية الأمريكية، حيث القوة الاقتصادية والقوة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية واللغوية والثقافية بدت مجتمعة في كيان واحد ومظلة واحدة تتعدى قوة العديد من الدول مجتمعة بل والعديد من القارات؛ والمشكل في الوطن العربي هو أنه يقع في منطقة حساسة جداً، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جداً لأنها تتوفر على مخزون هائل من النفط متوفر تحت صحرائها وبمنطقة جغرافية حساسة بسبب جيرتها المباشرة بالكيان الصهيوني؛ فاجتماع هاته العوامل جعلت المنطقة العربية في جوهر الشأن الدولي أو الاستراتيجية الدولية؛ والمشكل الآخر هو أن المنطقة العربية رغم هاته العوامل المحددة لتموقعها داخل النظام الدولي، هي لاعب غير قوي بسبب غياب الوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها بمجاراة التكتلات الجهوية والإقليمية والدولية....
فالمنطقة العربية تعاني من أزمة بنيوية خانقة؛ فالصومال مازالت دولة ضعيفة بكل المستويات ويزداد سوؤها يوماً بعد يوم، والسودان انفصل جنوبه عن شماله ويواجه تداعيات انشقاقات جديدة، والحالة العراقية تعاني اليوم مشاكل سياسية وطائفية؛ والثورات في مصر وليبيا مثلاً لا تعني إطلاقاً مد العصا السحرية لتثبيت التنمية وتحقيق النمو، واليمن لا زال يبحث عن حل لأزمته السياسية الداخلية، وسوريا في مأزق نظام حكم استولت عليه الأيام وأباد خضراءه الهرم فطبخته الدولة وأكل عليه الدهر وشرب، بما أرهفت السلطوية من حده ومازال يمارس الحل الأمني؛ وأصبحت منطقة جنوب الصحراء والساحل مرتعاً للجماعات الإرهابية خاصة وأن العديد من الأسلحة الليبية هربت إليها في أوج الصراع بين الثوار وقوات القذافي. فهاته بعض المحددات للواقع العربي أو التحولات التي عرفتها منطقتنا العربية، ويصعب تحديد ملامح وهوية الأنظمة الجديدة في ليبيا مثلاً وما سيحدث من تغيرات وتطورات مفصلية؛ كما أن النظام الإقليمي العربي هو نتيجة لمآل التداعيات السياسية داخل كل دولة....
انطلاقاً من كل هذا الكلام، تنتظر دولة العراق تحديات جساماً، وبدل أن يتلهى بعض القادة والمسؤولين العراقيين بإبداع خطابات رنانة وترتيلات مدوية وجوفاء لا تغير شيئاً من أوضاعهم اللهم إلا ما كان إلى الأسوأ، فلينظروا بموضوعية وأكاديمية كبيرة إلى الحال وإلى الإصلاحات والتحديات التي هم في حاجة إليها وتناسبهم، بالاحتكام إلى أدوات الفكر والقواعد داخل المجال السياسي العام، كما جاءت به أهم القواعد في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، والتي هي قواعد وأسس على شاكلة القواعد الرياضية والفيزيائية والطب والهندسة وعلوم الأحياء. فلا يمكن أن يتداوى الإنسان بالخواطر الذاتية، بل بالأدوية الصحيحة والدراسة الطبية المتميزة.. ولا يمكن لربابنة الطائرة أن يكونوا سائقي شاحنات غير محترفين ولا متدربين، ولا يمكن تدبير إدارة قطاع بنكي أو مصرفي بدون بنكيين ومصرفيين مقتدرين يخضعون إلى قواعد التسيير والقواعد البنكية المتعارف عليها.. نفس الشيء يقال عن المجال السياسي العام وأدواته مثلاً؛ إذ لا يمكن لتلك الأدوات أن تأتي من فراغ أو أن تختزل في مسارات أو أجهزة تنافي الطبيعة السياسية التي تفهمها وتسيرها العلوم السياسية، كما هو شأن جل المجالات السياسية التي أبانت عن نجاحها منذ عقود، ونجاح المجال السياسي العراقي العام رهين بتطبيق الميثاق التعاقدي ورمضان مبارك سعيد.