سبقَ وأن كتبنا أنه وسط الغضب العالمي حيال خطف البنات القاصرات اللواتي يتجاوز عددهن المائتين من منظمة بوكو حرام الإرهابية المتشددة في شمال شرقي نيجيريا، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منذ البداية عن إرسال فرق خبراء
إلى نيجيريا.. وأياً كان القلق والتنديد والمساعدة التي تقدمها الدول الغربية لدولة نيجيريا في هذا المضمار فهو شيء محمود إيماناً منها بعالمية حقوق الإنسان والبشر والمسؤولية المشتركة تجاه الفرد.. ولكنها تعني ويجب أن تعني في المقام الأول الوطن العربي والعالم الإسلامي أكثر من غيره، لأن هاته الفئات الضالة والمضلة والمارقة والإرهابية تقوم بأعمالها وللأسف الشديد باسم الإسلام وهنا الكارثة والمصيبة العظمى.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
هؤلاء الناس مهما تغيّرت أسماء تنظيماتهم من قاعدة أو بوكو حرام أو سلفية جهادية هم أصحاب الغلو في الدين المارقون والخارجون عن الملة، وحاشا أن يكون لفكرهم صلة بالإسلام الحنيف الوسطي المعتدل.. والذي نلحظه في السنوات الأخيرة هو التحول المهول الذي يطرأ على هاته الطوائف القتالية من تنظيم قطري إلى تنظيم إقليمي، وهي من الخطورة بمكان لأنها تُمكِّن من استقطاب عدد كبير من الأتباع الملوثة عقولهم وقلوبهم بنسيان الجغرافية والعمل بشكل منفرد تحت مسميات متعددة ومختلفة في الخفاء والعلن وهذا خطرها.
وهاته المنظمات هي في تطور مستمر إذا لم تتوَّحد الجهود بين الدول المسلمة والمعنية على أعلى مستوى.. ونظراً لعولمة الحدود وصعوبة الجغرافيا قد تتحوّل الوحدات إلى عناصر إرهابية عابرة للقارات وهنا تكمن الخطورة، ويجب خلق مجال العمل المشترك الاستباقي لتكوين خطة طريق استباقية في المجال الأمني دون أن ننسى خطة طريق استباقية في مجال الأمن الروحي للمسلمين بتصور مناهج تربوية عصرية تُدرَّس في جميع الوطن العربي للناشئة منذ نعومة أظافرهم.. وهذا هو المهم.. فنوعية منظومة التعليم في أوطاننا لها دور كبير في تفريخ هاته الشرذمة من الناس الخارجة عن الجماعة وإلا كان الأبناء المسلمون محصنين من الفيروس الملوث للعقول والقلوب، ولكانوا محصنين من ظاهرة الغلو في الدين، والغلو يكون خطيراً جداً حين يلبس لباساً دينياً.
فالغلاة ينحون نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا ركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة.
فتكون النتيجة سلبية وأحكامها هدّامة واستنتاجاتها مصيبة آزفة ومواقفها داهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، سرعان ما تتحول إلى إرهاب وعنف دموي.
ويمكننا أن نسرد هنا مثال الأخلاق والطبيعة المركَّبة لها، وقد أجاد المرحوم عبد الحليم أبو شقة في سبعينيات القرن الماضي عندما كتب: «قد يعجب المرء أحياناً من صدور نوعين من السلوك من شخصين نراهما متماثلين في خلق من الأخلاق، ولكن هذا العجب يزول إذا أدركنا أن بعض الأخلاق (مُركَّبة) من خلقين أو أكثر.. ولكي يصدر سلوك واحد من شخصين يستلزم تماثلهما في جميع الأخلاق المكونة لهذا السلوك، ولا يكفي التماثل في خلق واحد:
- التقوى + إيجابية = ثورة على المنكر.. بالمقابل: التقوى + سلبية = صمت على المنكر.
- الورع + تحرر فكري = اجتهاد محكم.. بالمقابل: الورع + تقديس للسلف = تقليد وجمود.
- الإخلاص لله + تسامح = تعاون.. بالمقابل: الإخلاص لله + تعصب = طائفية.
- العفة + إيجابية = نشاط محتشم.. بالمقابل: العفة + سلبية = عزلة خاملة.
- المحبة + يقظة = تعاون.. بالمقابل: المحبة + بلادة = عاطفة أو ادعاء».
فالغلاة يُركزون أيما تركيز على الانحراف الخلقي التقليدي ويجهلون أو يتجاهلون الانحراف الخلقي الفكري، وهو الأهم والأخطر، ومنهج النبوة هو عكس ذلك كله، ويمكن أن نستشهد في هذا المقام بمجموعتين متقابلتين من الأحاديث الدالة:
المجموعة الأولى:
1 - «أليس قد صليت معنا»؟ (لمن أصاب من امرأة ما دون الزنى الصريح)
2 - «رأيت شاباً وشابة فخشيت عليهما الفتنة!»(للفضل بن العباس الراكب خلفه ينظر لفتاة تسأل الرسول في الحج فأدار وجهه بيده الشريفة).
3 - «وإن زنى وإن سرق.. رغم أنف أبي ذر» (جواباً على أبي ذر الذي تعجب من دخول المؤمن الجنة ولو وقع في الكبائر).
المجموعة الثانية:
1 - «أفتان أنت يا معاذ!» (لمعاذ حين طوّل بالمسلمين في الصلاة).
2 - «فمن ترك سنتي فليس مني» (عن الثلاثة الذين نووا الرهبنة).
3 - «أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله»؟ (لأسامة حين قتل محارباً نطق بالشهادتين).
4 - «لو دخلوها ما خرجوا منها» (عن رجال السّريّة الذين أمّر عليهم واحداً فدعاهم للوقوع في النار طاعة له).
والمجموعة الأولى هي أنواع من الانحرافات الخلقية التقليدية هوّن الرسول (ص) منها وعادة الغلاة تهويلها وتضخيمها، أما الثانية فهي ضروب من الانحرافات الفكرية وعادة الناس التهوين من شأنها، أما الغلاة فيدافعون عنها ويرونها اجتهاداً، وإن كان خطأ فيقولون إن لنا أجراً واحداً في أسوأ الأحوال.
فكما أن الانحراف العلمي والغلو في التعصب للنظرية أو لمدرسة معينة وتقديس النتائج هي أمور مخالفة لمنهج العلم الصحيح، فالانحراف والغلو في الدين معدٍ ومؤثر سلباً وهو عين الضلال الشديد والهوى المبطل.
الاستثمار الفعّال لإنقاذ الأجيال المقبلة يبدأ من نوعية منظومة التعليم المدرسي في أوطاننا العربية وحري بمنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية البدء فوراً بهذا العمل تأصيلاً وتعميماً وهي مسؤولية تاريخية جماعية... ففشل المنظومة التربوية التعليمية في الوطن العربي والإسلامي هي التي ولّدت بوكو حرام وكل التنظيمات الجهادية الإرهابية.
كما أن التنظيمات «الجهادية» المرتبطة بـ»القاعدة» أصبحت أكثر ضبابية وأكثر توالداً، لأن الأوامر لم تعد تصدر إليها من أعالي جبال أفغانستان، وإنما تقوم بعمليات انطلاقاً من مبدأ ما أسميه باللا مركزية التنظيمية، ويعرف علماء القانون الإداري أنه في الدولة الموحدة يكون التقييم الإداري المبني على اللامركزية أكثر فاعلية وقوة من المركزية في نتائج أخذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية والتنموية، بل وحتى السياسية منها.. وعندما تدخلت فرنسا في مالي، اكتشف الإنسان العربي التواجد المهول لتلك التنظيمات ذات الأسماء المتنوعة، كما اكتشف وجودها العفن في مجتمعات الدول، ابتداءً من مالي والساحل والصحراء، وصولًا إلى أفغانستان وباكستان، ومروراً بإيران وموريتانيا وسوريا وليبيا والقائمة طويلة.. فهذا الفصيل من التنظيم الجماعي موجود وخطير ومزدهر يأتي على العقول الضالة، أو الجاهلة ليخرجها من الفطرة الإسلامية السمحة، ومن العقلانية الدينية إلى الهمجية المطلقة العمياء.
فالعلاقة التي تربط مريدي التنظيمات الإرهابية برؤسائهم مطلقة للأسف الشديد، وهم أناس ملوثة عقولهم يحملون علماً ضيقاً أو جهلًا مطلقاً، ويكنون خضوعاً مطلقاً لأصحاب التنظيمات «الجهادية»، وينافحون بالسلاح لفرض مبادئ ضالة ومضلة تأتي على أبرياء من بني البشر وتقوِّض مبادئ التسامح والتعايش بين بني آدم، والحل يكمن في إعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي.