من زوايا الذاكرة

* بالتحديد في نهاية القرن الرابع عشر للهجرة، كانت الإذاعة السعودية وهي القناة الإعلامية الوحيدة عندنا إلى جانب التلفزيون كانت تخصص وتبث بما يقارب (النصف ساعة) من مساء كل يوم برنامج (مع الفدائيين)، مخصص للقضية الفلسطينية، ينقل الأحداث الساخنة من ساحات الصراع هناك، حتى وكأننا نعيش في قلب الحدث، وربما أوحى لك أن المادة قد أعدت من هناك بأكملها.لا أريد أن أذكر، ولا أريد أن أتذكر تلك الأهازيج الشعرية الصاخبة المهجنة بين العربي والفصيح والتي كانت تصاحبها إيقاعات موسيقية تتلاءم وجو الحروب.

* كان لهذا البرنامج دوركبير في امتصاص غضب الشعوب آنذاك واستهلاك أوقاتهم، وبخاصة وأن مادته زاد مشترك قدم للشعوب العربية في الشرق الأوسط، باعتبار القضية الفلسطينية هي القضية الوحيدة، الحاضرة في عقل وتفكير الشعوب والقادة السياسيين، إذ كان كل بلد ـ حتى ولو كان في الظاهر ـ يحاول أن يكون هو المبادر لأي قرار، أو موقف سياسي حيال القضية التي أصبحت اليوم في ذمة التاريخ.

* أجمل ما في ذلك البرنامج فيما أعتقد بالنسبة لي ارتباطه بمرحلة الطفولة، حينما كان الصدق، أو التصديق لكل ما يطرح فيه، بل إن المعلمين حينذاك وبعضهم من الجالية الفلسطينية كانوا يوجهوننا إلى تمزيق أعلام إحدى الدول التي أبرمت مع الكيان الصهيوني اتفاقية سلام بمعزل عن رأي الجامعة العربية. سار البرنامج، وسرنا معه حتى كنا نعتقد أن الشعب الفلسطيني على مسافة قريبة من النصر وطرد المحتل، واسترداد الحقوق المسلوبة، كان الخطباء لدينا إلى جانب ذلك يرددون من على المنابر(اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والشرك والنفاق، وانشر رحمتك على العباد).

* انتهى ذلك البرنامج، وانتهى معه ذلك الدعاء، واستبدلناه بالقنوت عند بدء النوازل المتلاحقة، رغم أننا لم نصبر ولم نصمد حتى في القنوت، إذ أخذ اليأس، والعياذ بالله يسيطر علينا في سائرسلوكنا، تحولت اللغة من الهجوم، إلى الدفاع إلى لغة المستسلم في كل موقف من المواقف.

* ومع إيماني بكل ما سردت إلا أنني أتمنى أن أجد من يقول: إنك بالغت كل المبالغة في الوصف، إذ في كل رأي مخالف ما قد يبعث الأمل والتفاؤل الذي فقدته جراء هذا الواقع الذي نعيشه بكل ما فيه من حوادث ووقائع.

* اليوم لم تكن (القضية الفلسطينية) هي الوحيدة الحاضرة في الذهن، حيث توالت الأحداث وتكالبت المآسي التي أصبح بعضها يرقق بعضا في النفوس المكلومة، ففي كل قطر من أقطار العروبة جرح نازف (ولم يعد أحدٌ يبكي على أحد) كما قيل، فالشعوب تساوت - إلا ما ندر - في الكوارث المحدقة بهم، تساوت في الغربة والتشريد، والتشرذم والانقسام، وكل ما حاول مجتمع، أوشعب النهوض، تكالبت عليه الأعداء من الداخل والخارج.

* من زوايا الذاكرة المكلومة نستدعي قوة التنبؤ من أحد الأدباء قبل أربعين عاما، إذ بإحساسه المرهف، وشعوره المتوقد، وقد قلب أسفار التاريخ، ووقف على مراحل القوة والضعف، والهزيمة والانتصار، استشعر خطورة المستقبل، وسوء المنقلب لشعوب تلك الأقطار إن لم تلتف إلى الواقع، وتقبس من الماضي المشرق ما كان به من وسائل للعز والتمكين، واليوم نشعر بعواطفه الحرّى، وحزنه العميق على مصير تلك الأمجاد:

انزل (دمشق) وخاطب صخر مسجدها

عمن بناه لعل الصخر ينعاهُ

وطف(ببغداد) وابحث في منائرها

علّ امرئ من (بني العباس) تلقاهُ

وإن تراءت لك (الحمراء) عن كثبِ

فسائل الصرح أين المجد والجاه؟

* من ذات الزاوية وقبل عقدين من الزمن، وعلى نطاق ضيق يلتفت (غازي القصيبي)، ليقول:

سترتُ وجهي يا(بغداد) من خجل

وقلت قل يافمي شعرا فلم يقلِ

وقلت (بغداد) هذي اليوم تنكرها

ألم تكن هي وحي الحب والغزلِ؟