يقول جل وعلا في محكم كتابه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ ويُروى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي؛ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه»..) .
والسؤال : كيف نجمع بين هذه الآية وهذا الحديث؛ أي كيف نضع الآية في موضعها؟
هنا سأنقل لكم ما يقوله ابن تيمية - رحمه الله - في ولاية الحسبة، ومنها ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد وجدته تفصيلاً يضع مُحددات مُحكمة ومنضبطة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يتولاها، ولا يتعارض مع الآية وحديث أبي بكر - رضي الله عنه - في تخريج مُتقن ومؤصل. يقول في شروط المحتسب: (ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم ؛ بل يُقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال : {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الآية. وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقال: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعّدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم؛ وهذا باب يجب (التثبّت) فيه؛ وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصي؛. وأن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل؛ القصد فإن ذلك داخل في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قولهِ {إذَا اهْتَدَيْتُمْ}..).
ولتحقيق المناط هنا؛ فإن الحكومة، أو ولي الأمر بالمفهوم الفقهي، حصر هذه الولاية الشرعية، و(قيّدها)، في جهة حكومية مُعينة، ونهى أن يقوم بها غير العاملين فيها؛ وبالتالي فإن ما يقوم به بعض أصحاب الشغب، قولاً أو فعلاً، ممن (يدّعون) أنهم يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يحتسبون الأجر فيما يقولون أو يفعلون، خاصة من الصحويين، أو أصحاب حركات (الإسلام السياسي)، فهم في الواقع (يثقبون) ثقباً في النسيج الاجتماعي للدول، قد ينتهي بالمجتمعات إلى ما انتهت إليه الأوضاع في سوريا وليبيا التي تنقل مآسيها وطوامها إلينا القنوات الفضائية فتقشعر منها الأبدان.
أما القول : بأن هذا هو الإسلام، وهذه تعاليمه، فهذه حيلة، بل افتراء، لا تنطلي إلا على البسطاء والسذج؛ فتعاليم الدين مُنضبطة وليست فوضى؛ فالمعنيُّ بدفع الظلم، وردع الظالمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي (الحكومة) قصراً وليس أي أحد، سواء أظهر التقوى فأطال لحيته وقَصّر إزاره واعتمر عباءة مزركشة مُزراة، أو كان حاسر الرأس حليق اللحية؛ فالشكل والمظهر - وإن كان من السنن - فإنه هنا لا يهم، بل الأهم أن يتمسك بما تمليه عليه تعاليم الإسلام، وما تقوله نصوصه، وما يُفضي إلى الاستقرار والأمن وطمأنينة المجتمعات؛ وإلا فالخوارج قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحقِرون صلاتَكم مع صلاتِهم وصيامكم مع صيامِهم وعملكم مع عملهم ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدِينِ كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة) فهل نفعت هؤلاء أعمالهم، ناهيك عن مظاهرهم وأشكالهم؟.. فلا تغرنكم مظاهرهم ولا ما يلبسون أو يُلبِّسون!.
نعم .. هذا هو أس الإسلام المجتمعي: (عش أنت ودع غيرك يعيش)، ولا تتدخل فيما لا يعنيك، (ولا تُنازع الأمر أهله)، فليس ثمة (وصاية) في الإسلام إلا وصاية الحكومة - (حكومة ولي الأمر) - وما تصدره من أنظمة وقوانين؛ ومن زايد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو النصيحة العلنية، فاعلم أنه يتخذها (ذريعة) يُفجر بها استقرار مجتمعك.
إلى اللقاء