رحل بعض أعز الناس عن هذه الحياة الفانية، وفاتت على كاتب هذه السطور، وربما على غيره فرصة المشاركة في الصلاة عليهم، وذلك لسبب بسيط، وهو أن من مخرجات ما يسمى بالصحوة أن أصبحت الصلاة على الجنائز محصورة بمساجد محددة، وهو الأمر الذي يسبب مشقة، إضافة إلى مشكلة توفر مواقف كافية عند تلك المساجد المحددة، وهو ما تكون نتيجته أن يحرم الإنسان من أجر الصلاة على من يحب، ولا يراودني شك بأن كثيراً منكم سبق أن مر بهذه التجربة. هذا، مع أن هذا الأمر- حسب من استشرتهم من أهل العلم الثقات - مبتدع، ولا يوجد له أصل شرعي، ولا زلت أذكر قبل هذا، أن من يتوفاه الله، يصلى عليه في مسجد الحي الذي يسكنه، ويشارك في الصلاة عليه من يرغب من المعارف، والباحثين عن الأجر، فهل هذ هو الأمر المحدث الوحيد؟!.
بالتأكيد لا، فحلقات تحفيظ القرآن الكريم بالشكل الذي هي عليه اليوم لم تكن معهودة في الزمن الماضي، فقد كان هناك حلق ذكر، في كل مسجد تقريباً، يتبرع بالقيام بها إمام المسجد، ولا يقتصر حضورها على الشباب من صغار السن، كما هو الوضع حالياً، بل كان يحضرها الشباب، والشيوخ، ولم يكن الإمام يأخذ أجراً على ذلك، كما لم تكن هناك ميزانيات مالية لتلك الحلقات، لأنها، ببساطة، لا تكلف شيئاً لمن أراد الثواب، ولا يزال إمام مسجدنا في صغري يسكن عبق الذاكرة، إذ كان يقيم حلقة بعد صلاة الفجر، وأخرى بعد العصر، وربما لو وجد الحماس من طلابه، لما تردد في إقامة حلقة دبر كل صلاة، ومثل هذا العمل الخيري، فلم نعهد من يمتهن هذا العمل الجليل بمقابل مادي، كما هو الوضع في الجمعيات الخيرية حالياً، بل كان هناك زهاد حقيقيون، يعملون ليل نهار لخدمة إخوانهم من ذوي الحاجة، داخل البلاد، وخارجها، ولعل الشيخ، عبدالرحمن السميط، -رحمه الله-، كان من أواخر هؤلاء النادرين من الرجال.
أيضاً، في الزمن الماضي، وقبل تسييس الدين، لم نعهد من يستغل فرح الناس ليلقي موعظة في غير مكانها، وزمانها، ولا زلت أذكر ذلك الذي حضر مناسبة زواج، ثم أخذ المايكرفون من مقدم الحفل، وصرخ بأعلى صوته موجها رسالته للنساء، ومؤكداً لهن أنهن صويحبات إبليس، وإن كنا تساءلنا حينها عن إمكانية أن تكون والدة ذلك الرجل من ضمن الحاضرات!!، وهناك بالطبع من يستغل لقاءك به، ليمحضك بالنصائح، حتى وإن كنت تكبره علماً، وعمراً، خصوصاً أؤلئك الذين يدعو أحدهم لك بالهداية، دون أن يشرك نفسه بذلك، لأنه ربما على يقين بأنه لا يحتاج لتلك الدعوة، وبإيجاز غير مخل، أظن أنني، وغيري كثيرون نشتاق لذلك الزمن الجميل، زمن الأتقياء، والأنقياء، الذين يحسنون الظن بإخوانهم، فقد ضاق الناس ذرعاً بزمن التصنيفات، والبدع التي جاءتنا مع الإسلام السياسي، أليس كذلك؟!.