هناك رجالات دولة مقتدرون جمعوا بين الدبلوماسية وفن الكتابة والتنظير ومنهم من جمع بين الدبلوماسية والملكة الشعرية... ودائما ما استحضر لطلبتي في الجامعة القوة الكتابية لهنري كيسنجر وما خلفه ويخلفه
في تأليفه من تنظير إستراتيجي سواء اتفقنا معه أو لم نتفق... فالبيئة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية للدول أصبحت ذات طبيعة فوضوية ومعقدة، والعالم بدأ يتغير بسرعة فائقة وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ وبدأ منظرو العلاقات الدولية تصيبهم الحيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد تراءت إليهم محدودية نظرياتهم عن الأنظمة الإقليمية والدولية، وهي في أصلها متغيرة وانتقالية على الدوام، وتحاول تَوَقُع نظام دولي أو إقليمي له محددات كافية لتثبيت الاستقرار؛ فالإحاطة بالآثار المرتقبة لهذا الوضع العربي والعالمي أمر صعب؛ ولكن صانعي السياسة في حاجة إلى وضوح الرؤية ليضمنوا إعادة تشكيل ما أسميه بالبيئة الحامية للوطن؛ وكما هو الشأن عندما ندرس الإستراتيجية لطلبتنا في الجامعات، فإن فهم هذه البيئة الجديدة ذات المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وحتى تتضح لنا الرؤية ونبتعد عن القشرة أو الهامش، إن لم نقل الناقل من الحدث، يتطلب الإلمام بالمنظومات الفرعية المتنوعة، وتبني سياسات أو إستراتيجيات تركز بشدة على القشرة الحامية للدولة والضامنة للاستقرار والازدهار وهو دور الدبلوماسيين الإستراتيجيين ذوو الثقافة العالية...
وفي وطننا العربي نجد علماء أجلاء جمعوا بين المسار الدبلوماسي الطويل والتأليف والكتابة المعتمدة بل وكتبوا أيضا عن الدبلوماسية في العشرات من المجلدات كسيدي عبدالهادي التازي.... وسيرته الفكرية والدبلوماسية والثقافية غنية عن التعريف، تشهد له تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة والنادرة التي ألفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لعالم يعشق الكتابة بالحركة الدائبة، لتكون في جملتها سفراً كبيراً ستقرأ فيه أجيال دروسا من الجهد والبذل العلميين، حيث خلف أكثر من خمسين مؤلفا بعضها في العشرات من الأجزاء.
ولهذا الأخير كتيِّب صغير الحجم فيه اَيات من المتعة وسمّاه «حزب الجو»، واستغرقت كتابته كما حكى لي عشر سنوات، وهو من أفرد وأعجب ما قرأت وما كان ليكتبه لولا تجربته الدبلوماسية وقوته المعرفية والفكرية....و»الحزب» هنا هو جملة مختارة من الكلام والأدعية يتلوها المرء احتسابا، في ظرف معين، بحيث له نفس المعنى الاصطلاحي الذي لكلمة «وِرْد»؛ وحزب الجو لعبد الهادي التازي هو وِرد لرجل عالم غير متصوف، واقتباس وابتكار ألهمه إليه ما كان يعرض له في بعض مراحل حياته الجوية (التي تجاوزت 1400 رحلة كماحكاه لي)، من تأملات وتلاوات وقراءات، وخاصة في حالات التوجه والتعلق والتمني والترجي؛ ومن أروع ما قرأته في حزبه هذا قوله مثلا:
«اللهم إننا ضيوفك على متن هذه الأجواء فنعوذ بك مما يغضبك في هذا المقام...
اللهم اجنبني في سفري رفيق طريق لا يؤتمن، وصاحب جنب لا يرحم، فأنت تعلم أن الأسفار أمن وأمان وروح وريحان، وعلم وعرفان...
اللهم إنا نضرع إليك أن تحفنا بألطافك الخفية فنحن كما ترى، ريشة لا أرض لها تعتمد عليها، ولا سبب يمدها إلى السماء ولا رائد لما بين يديها ولما خلفها. أسراب من سحاب تخترقها شواهق الجبال، ومجاهل من صحرائك مقفرة، ومحيطات من بحارك موحشة،... هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم...»
ومن الدبلوماسيين العرب من جمعوا بين الممارسة الدبلوماسية والموسوعة المعرفية والثقافية والتاريخية وبين الممارسة الدبلوماسية والأستاذية والملكة الشعرية... وهذا ما يمكن أن نستحضره في دبلوماسيين من المملكة العربية السعودية ومنهم السفير الدكتور عبدالرحمن الجُدَيع سفير المملكة السعودية لدى المملكة المغربية.... فقد عمل د. الجدَيع أستاذا مساعدا بالمعهد الدبلوماسي، ثمّ تقلد عدّةَ مناصب دبلوماسية كسفير للمملكة في دول مختلفة، كان آخرها تعيينه سفيرا لدى المملكة المغربية، ولعل من نافلة القول إن السفراء الذين مثلوا المملكة في المغرب تميزوا، فضلاً عن قدراتهم الدبلوماسية، باهتمامهم بالشعر والأدب...وفي لقائي منذ أيام بالدبلوماسي الشاعر التمست فيه عمق التجربة وأصالة الثقافة السعودية والخليجية والعربية والعالمية وقيمة أبحاثه وأشعاره وذوقه النفيس.... وبتجربته الدبلوماسية والثقافية اختمرت شخصيته، وبرزت كنموذج لإنسان سعودي عربي عصامي في تكوينه، ملحاح في أبحاثه، شغوف بتاريخ بلاده، رسول لقيم وطنه وأمته....ليظل دائم الاتصال بكنانيشه ووثائقه، يستنطقه التاريخ، ويستقرئ المستقبل قريبه وبعيده، يمعن الإنصات إلى صدى القرون وآثار الأجيال، فيزيل اللماط عن أسرارها وطلاسيمها، فتبدو أمامه شفافة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بحروبها وفترات استقلالها...
فمن يجالسه يجده مفكرا بارعا ومحاورا نزيها، لطيفا ومتفتحا، مستعدا للأخذ والعطاء، يحسن الاستماع في تواضع يساهم في الرفع من مستوى النقاش إلى أعلى مراتب عطاء الفكر الإنساني. وهو الذي كتب مؤخرا في حوار شيق معه: ( تتسم الحضارة السعودية والحضارة المغربية بسمات مميزة خاصة، تعكس ثراء الإرث الثقافي لكلا البلدين وتجاربهما مع العديد من البلدان العربية والاسلامية. إن وجود موروث ثقافي مشترك بين البلدين أمر واضح وجلي، ويجمع بين كثير من القواسم المشتركة التي يتسم بها الشعبان الشقيقان. لذا فإن اهتمام السفارة السعودية في موضوع الثقافة والموروث الثقافي هو أمر طبيعي، خصوصا بالنظر لما توليه حكومة المملكة من اهتمام بالتراث الحضاري لشعب المملكة في احتفالات الجنادرية مثلاً..... أما فيما يخص تمتع بعض السفراء بمواصفات أدبية جمعت بين المهنة الدبلوماسية والأدب، فأعتقد أنه حين يوهب الإنسان الملكة الشعرية والأدبية فإنه لا يستطيع الإفلات من غلبتها. ولا يختصر هذا الأمر على السفارة السعودية في المغرب، إذ إن في تراثنا أمثلة رائعة على أولئك المبدعين بين قمم الشعر والأدب الذين أتاحت لهم مهنتُهم الدبلوماسيّة الاطّلاعَ على فضاءات حضارية جديدة وثقافة إنسانية متنوعة متجدّدة ترفد الخيال بإبداع يأخذ شمولية التجربة الإنسانية. وتزخر ثقافتنا بأسماء عريقة جمعت بين الشعر والأدب والدبلوماسية. ويتصدر هذه النخبة المبدعة الشاعر عمر أبو ريشة ونزار قباني وحسن القرشي وغازي القصيبي وعبدالعزيز خوجة مع حفظ الألقاب، إذ أسهمت هذه المهنة في فتح آفاق واسعة لهم، فاطّلعوا وتمرسوا في ثقافات وحضارات أخرى أثْرَتْ ثقافتَهم وأثّرتْ في وجدانهم وسبرت أحاسيسهم وشحذت مواهبهم. ونحن نعمل على أن يكون للسفارة السعودية دور بناء وتفاعل ثقافي فكري مع النخب الأدبية في المجال الثقافي بحيث يستمتع به أربابُ الدبلوماسية وذوّاقو الأدب).
وأريد أن أشرك القارئ العزيز بعضا من أبياته التي أتحفني بها ونحن نتحدث سويا في مواضيع تجمع بين العلمية والأكاديمية والتاريخية والأدبية وهذه قيمة جمع دبلوماسي بلده لهذه الخاصيات المتفردة:
وإذا اعتزمتُ ترحُّلاً، فلأَنَّ لي
أَملاً على أَرضِ الرِّباطِ جديدا
في المغربِ العَرَبيِّ يشمخُ أَطلسٌ؛
شاخ الزمانُ وما يزالُ وليدا
أَمَّا الحِسانُ ففتنةٌ سمراءُ، لا
شقراءُ من أَرضٍ تظلُّ جليدا
المغربُ العربيُّ فيه أَصالةٌ
ويضمُّ مجدًا طارفًا وتليدا
والمغربُ العربيُّ فيه حضارةٌ
أَضفَتْ على سرِّ الحياةِ خُلودا
عسى الزمان...
مها الجزيرة، ها نَفْحُ الصبا عَطِرُ
قد رفرفَ القلبُ لمَّا جاءني الخبَرُ
المغربُ ارتقصَتْ أَرجاؤه طرَبًا
والطيرُ غرَّدَ، وازْهَوْهى به الشَّجَرُ
حينَ التقَينا غَضَضْتِ الطَّرْفَ من خَجَلٍ
وضرَّج الوجنتَينِ الطُّهْرُ والخَفَرُ
***
«أَعابثٌ،» سأَلتْ، «أَم شاعرٌ وَلِهٌ
يكادُ يعيا، بما قد ذاقه، البَشَرُ؟»
فقلتُ والقلبُ خفَّاقٌ لرؤيتِها:
جَمالُ وجهِكِ لم تحلُمْ به الصُّوَرُ!
وهل أَبوحُ بسرٍّ كنتُ أَكتمُه:
هذا لهيبُ الهوى في القلبِ يَستعرُ
ولستُ من طينةِ العشَّاقِ، ذا بَرَمٍ
والليلُ لا كانَ، لولا الكأْسُ والوَتَرُ
أَنا المحبُّ وكُلِّي دائمًا أَمَلٌ
والشوقُ أَن يَتَملَّى وجهَكِ النَّظَرُ
عسى الزمانُ يُوافي باللقاء... تُرى
هل يستجيبُ؟ وهل يعنو لنا القدَرُ؟