قرأتُ وسأظلّ أقرأ عن (فجوة) الفهم بيننا نحن العرب والغرب، شعوباً وثقافات، وبقدر تعدُّد التسَاؤلات وتواليها في هذا الصوب، تأتي الردودُ عليها متبايَنِةً: حججاً وأسباباً.
* * *
1) دعونا نسلم بدءاً أن هناك قدراً من الخصوصية مغلّفة بشيء من الغموض في بعض الثقافات تتعذُّر على فهم الإنسان العادي غير المتخصص المستوعب لثقافات الشعوب، وهذا أمر مسلّم به. لكن هناك جزءاً غير قليل من هذه الثقافة أو تلك يمكن (اختراقُها) علماً وفهماً واستيعاباً، وفي مقدمة ظواهرها اللغة إلى حد كبير، وفي هذا قدر كاف للتقريب بين المنتسبين إلى تلك الثقافات!
* * *
2) لكن هناك من يكاد يجزمُ أنَّ الذهنَ الغربيَّ يختزن الكثير من (الصور النمطية) المحرَّفة أو الغامضة أو المشوّهة فهماً عنا نحن العربَ، بعضُها من (صناعة وإنتاج) الخيال الـ(هوليودي)، والبعض الآخر أفرزتْها انطباعاتُ بعض السياح ومَنْ في حكمهم الذين يفدون إلى بلادنا لغايات ومدد مختلفة، ومن بينهم العمالة بكل فئاتها، ثم يعودون إلى ديارهم بانطباعات، بعضُها سويّ، وبعضها الآخر يتكئ إلى سوء في الفهم أو سوء في الظن أو كليهما، ثم (ينشر) انطباعاته ذات اليمين وذات الشمال بدْءاً بمحيطه الأسري مروراً بأصدقائه ومعارفه، وقد يتجاوز ذلك فينقل انطباعاته كتابةً أو حديثاً مسموعاً تتلقفه شرائح من الرأي العام في بلاده. لتجدَ من يستقبلها بترحيب يُؤكد ما لديه سلفاً من صور ذهنية عنا، سلباً أو إيجاباً!
* * *
3) وهناك منا من (يفشل) في التعامل مع (ممثلي) العالم الخارجي المقيمين في بلداننا تعاملاً إنسانياً يقرّب المسافات، ويمحُو شبهاتِ الظنَّ والأحكام المبنية عليها سلفاً في أذهان أولئك البشر عنا نحن العرب. وأبلغُ شاهد على ما أقول كيفيةُ تعامل بعضنا مع خدم منازلنا الوافدين إلينا من جنوب شرق آسيا تحديداً، وبعض البلدان الأفريقية، خاصة حين يتعاملُ بعضُنا مع بعض أولئك أو هؤلاء كأنّهم (ممّا ملكت الأيمان)!
* * *
نعُود إلى نقطة البداية في هذا الحديث، ونسأل: كيف ولماذا نشأت أزمة الفهم المتبادل بين العرب والغرب؟ وسأجتهدُ بشيءٍ من الرد فأقول:
«نحن بلا ريب مقصّرون في تعاملنا الإعلامي مع الغرب ومع غير الغرب، لسبب بسيط هو أننا في معظم الأحوال نتَحدثُ مع أنفسنا وبلغتنا نحن، ونحسب أن (الآخر) يفقه ما نقول، ثم نستنكر في النهاية جهلَه بنا أو تجاهله لنا! وتلك حقيقة لا خيال!».
* * *
من جهة أخرى، نحتاج إلى التفريق بين الحديث عن الذات والحديث مع (الآخر) تعريفاً بنا، وشرحاً لقضايانا، على أن يكون ذلك الحديث بلغة يفقهها هو، بلغته هو لا بلغتنا.
* * *
إذاً، فحين نتحدث عن التعامل مع الحضارة الغربية، ونتساءل هل هو قائم على الحوار أم الصراع، ننسى أننا حتى الآن لا نملك سوى القليل من آلية التعبير عما تستضيفه عقولُنا وقلوُبنا كيْ يفهمَنا الآخرُون فهْماً لا ريبَ فيه.
ومن ثم، تبقى القضية في التحليل الأخير، كما أراها، أزمةَ فهمٍ للغرب لا أزمةَ حوار معه، وأعتقد أننا مسؤولون عن الجزء الأكبر من تلك الأزمة، وقد قيل في الأثر: (من تعلَّم لغة قوم أمِنَ مكرَهم)، والتعلُّم هنا لا يعنى معرفةَ لغة الآخر، مفرداتٍ ونحواً وصرفاً، بل فهم لغة هذا الآخر، تاريخاً وثقافة ومواقفَ وأنماطَ تفكير، وهذا أقصر السبل وأجداها للتعريف بأنفسنا وقضايانا، وبالتالي التأثير على الآخر لصالحنا!.
* * *
نعم.. نحن العرب في أمّس الحاجة إلى تفعيل قدرتنا على الحوار مع الآخر تفعيلاً تسيّره موهبةُ العقل لا عضلة اللسان، وقد أثبتت كارثةُ الحادي عشر من سبتمبر قبل نحو عقدين من الزمن عمقَ الهُوة السحيقة التي تفصل بين خطابنا الإعلامي والخطاب الغربي.. ومن خلال هذه الهوة، تسللّت طفيلياتُ العبث الصهيوني إلى مضايق العقل الغربي، والأمريكي منه خاصة، لتُسيءَ إلينا، هويةً وسمعةً وتاريخاً، وتشوّه قضايانا، وصرنا في بعض المواقف نشبهُ الغريقَ الذي يلتمسُ الخلاصَ ولو بشعرة يستلّها من جلد بعير!