نهى الحقُّ تبارك وتعالى عن الهمز واللمز في التعامل بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات؛ فلا يسخر رجال من رجال؛ عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء؛ عسى أن يكنَّ خيراً منهنّ، وأكد أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وهي الصراط الحميد لكل فضيلة تقرّب الإنسان من طاعة الخالق، وتبعده عن أذى المخلوق!
* * *
أسوق هذه المقدمة وأنا أسمع بين الحين والآخر سقطاً من القول يرجم إنساناً آخر بـ(البداوة) أو (القراوة)، رمزاً للتخلف، فكراً أو قيافة أو سلوكاً. وأمر كهذا يهز الوجدان، أن يصبح (البدوي) في وطنه وبين أهله وسيلة (إسقاط) لمظنة التخلف استهزاءً به وازدراءً!
* * *
وأستأذن القارئ الكريم بالتعليق على هذا الجزء من الحديث بما يأتي:
أولاً:
أن ابن القرية أو البادية ليس في حاجة إلى مَنْ يدافع عنه، أو يعتذر له أو يزكيه؛ فالتاريخ والجغرافيا يشهدان له أصالة وصلابة وصموداً! فقد عانى من شظف العيش في الماضي بإباء، وواجه محنه بشجاعة، وتعامل معه بقلب عامر بالإيمان والقناعة! فهل في هذه السمات من عيب يصادر من صاحبها كرامة النفس وإنسانيتها وعزتها؟!
* * *
ثانياً:
اسألوا لهذه الغاية الحاضر والراحل من آبائنا وأجدادنا، الذين لم يحرمهم شظف العيش ولا ضيق المكان ولا ضعف الحيلة أن يشقوا الأرض والجبال بأظافرهم؛ ليصلوا إلى ما يريدون. وأحسب أنهم من فرط شغفهم بما كانوا يفعلون كانوا أكثر منا فرحاً، وأغنى قناعة، وأهدأ وجداناً! الثروة وما تفرزه من رفاه يخالطه الإسراف أحياناً لا تأتي بخير حين تبلغ بصاحبها حدًّا يعذبه ويشقيه، ويختلس الكرى من جفنيه!
* * *
ثالثاً:
إذا كان (المرء الحديث منا) مفتوناً بمحاسن الحس، ويقيس بها (هويات) الناس من حوله، ظناً منه أنها معيار السمو والنبوغ الإنساني، فيجب ألا يظلم إنسان القرية أو البادية، فيرجمه بما يراه مخالفاً (لشراهة) الحس في طبعه غير عابئ بالتغير في تضاريس المكان وظروف الزمان وأحوال الخلق!
* * *
رابعاً:
علمنا وتعلَّمنا منذ فجر الزمن أن (البداوة) أو (القراوة) ليست قيافة في المظهر.. ولا أناقة في اللفظ، ولا متاعاً في الزاد، بل هي نقاء في المعدن.. وصفاء في الوجدان، وعفوية في السريرة، وأنها الصبر على جور الأرض، وضيمها، وهي الوجه الآخر المتفائل للحياة المثخنة بالخطوب!
* * *
خامساً:
إن من الظلم الظن بأن (البداوة) أو (القراوة) توأمان للتخلف، لا يكون إلا بهما. التخلُّف في أصله ما كان يوماً ضالة ابن القرية أو البادية ولا غايته، بل كان قيداً يأسر طموحه، ويعوق نموه، فلما أُتيحت له فرصة الانعتاق منه انطلق كالمارد، يجوب أجواء العلم والثقافة داخل الوطن وخارجه، فصار طبيباً ومهندساً وطياراً ومحامياً وقاضياً وأستاذ جامعة ورائد فضاء!
* * *
ولا يزال (ابن البادية) وشقيقه (فتى المدينة) في هذا البلد الأمين يمخران فضاء الطموح الواسع بحثاً عن العلم والحقيقة؛ ليعودا إلى أهليهما بالخير العميم!
* * *
أخيراً.. أذكِّر نفسي وأفراد الجيل الحاضر.. داعياً إياهم ألا (يغتربوا) عن أهليهم ومجتمعهم بالقدر الذي ينسيهم جذورهم.. ومنابت عقولهم وأفئدتهم.. فإذا أنِسوا أمراً تنكره (غربتهم).. قذفوا فاعله بـ(البداوة) أو (القراوة).. وكأنهم هم (أسوياء) لا يأتيهم عيب من بين أيديهم ولا من خلفهم.