فُجعتُ مساء الأحد الماضي كما فُجع الوطنُ، إدارةً وثقافةً وأخلاقاً، بنبأ رحيل رمز الأُبوة الكبير، معالي الدكتور / عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر إلى دار الخلود بإذن الله، وليس للمؤمن العاقل في موقف عصيب كهذا سوى الدعاء لأبي محمد بالرحمة والرضوان، وأن يلهمَنا الله جميعاً، أهلاً له ومحبين ورفاقَ عمل، الصبرَ والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
***
تلقيتُ النبأَ الفاجعَ بقلب المؤمن، وفؤاد المحتسب، وصبر العاقل، تسليماً بقضاء الله وحُكمه وحِكْمته، وهو القائلُ جلَّ شأنُه: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} الآية (34) (سورة الأعراف)، وقد حَسم رحيلُه المكتوبُ رحمه الله آمالَ المحبّين بتجَاوزه الأزمةَ الصحّية، وانتصارِه على المرض الذي ألزمه السريرَ الأبيضَ طويلاً.
***
وبهذه المناسبة أتذكّر أن فقيدَنا الجليلَ رحمه الله هاتفني ذات صباح من غرفته بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض يُنَبئُني بدخوله المستشفى في ذلك اليوم، ويعتذر عن حضور جلسة مجلس الوزراء، ولقد أوجستُ خيفةً بادئَ الأمر ليسَ من النبأ نفسه، لعلمي أن لمعاليه زياراتٍ شبه منتظمة للمستشفى، فحْصاً أو مراجعةً أو علاجاً، لكن نبرةَ صوتِه الخافت أوحتْ لي أن في الأمر خَطْباً غيرَ عادي، فدعوتُ من القلب أن يكشف الله ضُرَّه، وأن يعيدَه إلى أهله ومحبيه سالماً معافىً.
***
عرفت الفقيد الكبير قبل أكثر من أربعين عاماً في الرياض، بعد عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية مبْتعثاً، فلم أرَ فيه عبر السنين سوى هيبةِ العالِم، وعمقِ الباحث، ونزاهةٍ الإنسان: طهراً في القلب وعفةً في اللسان، وتواضعاً في السلوك والتعامل مع كل من حوله!
كان -رحمه الله- شديداً بلا غِلْظة في اتباع الحق.. وما يخالفُه من قول أو عمل، وكان رقيقاً بلا لين ولا ضِعةٍ، وكان يعبّر عن خلقه السويّ بالتواصل مع شرائح مختلفة من الناس، أعلاهم وأدناهم، في سرّائهم وضرائهم، وكان منزله العامر ملتقى أسبوعياً لأهل الجاه والفكر والقلم.
***
كان شغوفاً بالتاريخ، تخَصُّصاً وروايةً وتدويناً، فألّف العديدَ من الكتب المعروفة، كان آخرُها كتابَهُ (وسم على أديم الزمن) في أكثر من ثلاثين مجلداً، يجمع بين السيرة الذاتية والتدوين التاريخي والاجتماعي لمواقف ومشاهد وأحداث عاصرها متنقلاً بذاكرته الحية المتّقدة بدْءاً من عنيزة ومكة المكرمة، فالدراسة الجامعية في القاهرة خلال عقد الخمسينات الميلادية، ثم لندن، حيث تابع دراساتِه العليا في جامعتها الشهيرة، عبر كليات الدراسات الشرقية، ليُحرزَ شهادةَ الدكتوراه عن الحاكم المملوكي (الظاهر بيبرس)، ثم يعود إلى الرياض ليستقرّ بها ويعملَ بادئَ الأمر أكاديمياً بجامعة الملك سعود، قبل أن يحمله قاربُ المنصب إلى محطات وزارية عدة انتهت بوزارة الدولة وعضوية مجلس الوزراء حتى أدركه الأجل المكتوب.
***
وأذكر أنني سألتُ معاليه ذات يوم عن سر (ديناميكية) التدوين لمذكراته وذكرياته فقال: درجت منذ زمن طويل على تدوين وقائع كل يوم وليلة، الخاص منها والعام، في قصاصات من الورق، ثم أخضعها فيما بعد للتأمل والتدقيق قبل أن أنتخبَ الملائمَ منها ليكون ضيفاً على مشروع كتاب جديد!
***
وبعد..،
فرحم الله فقيد الإدارة والتنمية والتربية والأدب معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر فقد كان صديقاً ورفيقاً رقيقاً لإحسَاسِ كل من عرفه فألفه فأحبّه، كان أباً لأصغرنا، وأخاً لأكبرنا، وقد اجتمعت في شخصه هيبةُ العالم، وحلمُ الحكيم، وشفافيةُ الإنسان! يفتنُك بحديثه الأبوي الدافئ، فتتمنَّى ألاّ يمسك عن الكلام، خاصةً حين يجُول بذاكرته في تخوم التاريخ وثقافات المجتمع وعاداته، فيسمعك ما لم تسمعه من قبل طُرفاً ورواياتٍ ووقائعَ، وكان يشدُّ قلبَ وسمعَ من ينصت إليه متحدثاً عن أمور تتعلق بالشأن العام في المملكة وذكرياته مع الملوك الذين عاصرهم وعمل في ظلهم مستشاراً أو وزيراً.
***
أجل.. إنّ للحديث عن أبي محمد الخويطر معيناً لا ينضب، ولذا، أتمنَّى أن نشهد قريباً ميلاد إنجاز أدبي متخصص يؤرّخ للرجل نشأةً وسيرةً وإنجازاً في كل مسارات حياته، فهو أمة في رجل: عصاميةً في الإرادة، وحَزْماً في الإدارة، وثَراءً في العطاء، أداءً وإنجازاً، وقبل هذا وبعده، كان (سِفْراً) جليلاً للخلق الرفيع والسمو الراقي تعاملاً وإحساساً وإحساناً على كل المستويات. لذا، يتذكره الناس اليوم وغداً وحتى بعد حين بعيد رمزاً طاهراً متوجاً بمكارم الأخلاق!