شهد مطلع القرن العشرين نشوء جماعات ضالة اتخذت من الإسلام شعاراً ولباساً لها وهي أبعد ما تكون عنه، وشرعت في تشويه القيم الإسلامية السمحة، فكل فرقة من هذه الفرق المنحرفة تنشد أهدافاً سياسية، ومادية، وعقدية، هي أبعد ما تكون عن الإسلام الصحيح، فانخدع بشعاراتها الجذابة بعض من المغرر بهم، من الذين لم تنكشف لهم هذه النوايا الخبيثة لهذه الجماعات إلا بعد فوات الأوان، والبعض الآخر ما زال منخدعاً بالأكاذيب التي تتبناها، فأصبحت هذه الجماعات المتطرفة خطراً على المجتمع وعلى الأجيال القادمة، الذين هم بأمسّ الحاجة إلى توجيه أهل العلم والاختصاص لينيروا لهم الطريق، ويبينوا لهم فساد هذه الجماعات المضلّة، وذلك لا يتأتى إلا بالأسلوب العلمي الرصين الذي يفند المشكلة ومن ثمَّ، يبين مواضع الخلل فيها ليقترح حلولاً لها، وهذا ما يتوافر في هذا الكتاب القيم بعنوان: (شكل وسمات التطرف فكريًّا عند بعض الجماعات الإسلامية في العصر الحديث) الذي سأقوم بعرضه وتحليل محتواه، وهو من تأليف فضيلة الشيخ العلامة معالي الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس المجلس التنفيذي لاتحاد جامعات العالم الإسلامي، الذي يقول في مقدمة الكتاب: (ولقد كانت الإمامة والجماعة واضحة المعالم، بينة المنهج، قوية البنيان، متينة الأسس في الصدر الأول للإسلام، لا يقبل التعرض لهما، ولا المساس بهما على أي حال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب ومهما كانت الدوافع والأهداف، وأيًّا كان الشخص أو الأشخاص، حتى ظهرت أول بدعة في الإسلام ألا وهي بدعة الخروج على إمام المسلمين وجماعتهم)، ويكشف معاليه تزايد أعداد الفرق والجماعات في العالم الإسلامي بقوله: (زادت الجماعات والفرق والتوجهات في العالم الإسلامي، وتنامت في أساليبها ودعاياتها، في مقابلة ومضادة الجماعة الحقيقة الصحيحة، مصدقاً لما أخبر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)، ويواصل د. أبا الخيل حديثه في مقدمة الكتاب عن الموضوع الأساس وهو الجماعات المتطرفة، والجهات الخفية المشبوهة التي تدعمها؛ حيث يقول: (وصار الأمر أبلغ أثراً، وأنكى ضراراً، وأشد خطراً، وأعمق شراً، وأوقع على النفوس في العصر الحاضر، حيث فعلت بعض الجماعات المنحرفة المشبوهة، ودعمت بأيد خفية، ووضع لهاترتيبات مريبة، وخطط محكمة، وألبست لباس الدعوة و الإصلاح وأظهرت بمظهر الخير والدفاع عن الإسلام والغيرة عليه، وإعادة أهله إليه، وجهاد أعدائه، وحماية حياضه، كل ذلك صاغوه وقدموه للأمة بأساليب مؤثرة، ووسائل مقنعة، وعبارات براقة ورنانة، وكتابات وكلمات حماسية، منهجها إثارة العواطف، واستدرارها، وطريقها إحماء الغيرة واستلهابها، وقوة التدليس والتلبيس على العامة والخاصة، والتلاعب بشعور ومشاعر العامة، وتحسين القبيح، وتقبيح الحسن، حتى صار الناس في نظرهم إليها وتأملهم فيها كالظمآن الذي ينظر إلى السراب يحسبه ماءً، فإذا جاءه لم يجده شيئاً، فيظل يتابعه، ويلاحقه ويلهث وراءه ليروي عطشه، ولكن هيهات هيهات؛ لأن مصيره الهلاك)، ويواصل المؤلف تفنيده لهذه الجماعات المنحرفة عن جادة الصواب، وانخداع بعض العامة بها، حيث يقول: (وبهذا لبّس على بعض الناس، وقلبت الحقائق وتغيرت الموازين، واستدرج الشباب، وفتحت لهم الأبواب التي إذا دخلوا منها لم يخرجوا إلا وقد غسلت أدمغتهم، وشوهت فطرهم، وعبث بعقولهم، وشوش على أفكارهم، حتى أصبحت تلك الأفكار والمبادئ الهدامة التي تتبناها تلك لجماعات المقصودة طوقاً شديداً وملتهباً في أعناق أربابها، يوالون ويعادون عليها ولها، وسلاسل وأغلالاً يقيد ويغل بها أتباعها، وآصاراً تضيق على أنفسهم وتشد وترزح على عقولهم، وتوجه توجيهاً لا إرادياً أفكارهم، وحزاماً ناسفاً لكل فضل وفضيلة، وسيلاً جارفاً للفطر السليمة ورياحاً عاتية وعاصفة للأخلاق الحميدة، وزلازل وبراكين مفجرة للأديان والأنظمة والأعراف والتقاليد، ونيراناً محرقة للأمن والأمان والطمأنينة، وسيلاً عارماً جارفاً للسلم والسلام، ولذلك تربى المنتسبون إليها على الكره والحقد على مجتمعاتهم، والحزبية في أعمالهم والثورية في تصرفاتهم، والجرأة والبطش في أفعالهم، والمكر والخداع في كل شؤونهم، والنظرة السوداء لكل ما أمامهم، دون وازع ديني أو رادع عقلي، مما يجعلهم عنصر هدم ومعول تدمير، وأداة فساد وإفساد، وسبباً مباشراً للإضرار بأنفسهم وأسرهم ومجتمعهم، بل وأبعد من ذلك كانوا حجر عثرة كبيراً في وجه المد الإسلامي الهائل في الشرق والغرب، وعقبة كؤوداً ضد الجهود الجبارة التي يبذلها المسلمون وخصوصاً بلاد الحرمين الشريفين (المملكة العربية السعودية) في مشارق الأرض ومغاربها لإعلاء كلمة الله، ونشر المعتقد الصحيح والمنهج السوي السليم، ومبادئ الإسلام الحقّةوأحكامه العادلة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- التي تعتمد الوسطية والاعتدال، وتقوم على السماحة واليسر ورفع الحرج، بعيداً عن الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، كل ذلك تقوم به وفق آلية واضحة وصريحة ومنظمة، وتحت أنظار العالم كله وبسماح ومتابعة من أنظمة تلك البلدان).
ما يميز هذا الكتاب هو المنهج الذي اتخذه مؤلفه معالي الدكتور سليمان أبا الخيل، حيث سار على طريقة علمية مؤطرة، ومقننة، تمثلت في جمع الكتب والمصادر ذات الصلة بموضوع الكتاب، وتحديد المنهج المطلوب والمفردات الخاصة بهذا المؤلف وقراءتها قراءة دقيقة وفاحصة، بالإضافة إلى وضع الأطر العامة والخطة التفصيلية لهذا البحث والموازنة بينها، إلى جانب توثيق ما جاء في هذا الكتاب من نقول سواء أكانت لعلماء متقدمين أو متأخرين، وعزو الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم، وتخريج جميع الأحاديث التي استدل بها على هذا المؤلف، وتخريج الآثار الواردة في الكتاب من الكتب ذات العلاقة، مع بيان الحكم على الأثر إن وجد، بالإضافة إلى التعريف ببعض الألفاظ التي تحتاج إلى بيان وتوضيح، وبيان معاني بعض الآيات والأحاديث وما تدل عليه، كما وضع المؤلف فهارس كاشفة وتفصيلية لفهرس المصادر والمراجع، وللموضوعات، الواردة في الكتاب، بهذا الأسلوب العلمي الفاحص والدقيق، تتجلى الأمور وتنكشف الحقائق، وهذه الطريقة المميزة لا يسلكها إلا العلماء الربانيون الذين يفندون الحقائق، ويكشفون ما يلصق بها من أكاذيب وافتراءات، وخصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، والادعاءات الباطلة.
صدر هذا الكتاب الثمين في 235صفحة، وفي ثلاثة فصول، يندرج أسفلها مباحث وموضوعات ومسائل وأحكام، تم من خلالها بحث ومعالجة كل ما يتعلق بموضوع الدراسة، من أمور إجمالية أو تفصيلية، سأعرض لها أثناء قراءتي لهذا الكتاب.
يصدّر مؤلف الكتاب إصداره بالفصل الأول المعنون بمفهوم الجماعة ووجوب لزومها وحرمة الخروج عليها، مشتملاً على مبحثين: الأول: مفهوم الجماعة وضرورتها، والمراد الشرعي بها، وحكم لزومها والخروج عليها، أما المبحث الثاني فقد جاء بعنوان: الأدلة على وجوب لزوم الجماعة وحرمة الخروج عليها، بعد ذلك ينتقل د. أبا الخيل لمناقشة المبحث الأول: مفهوم الجماعة وضرورتها، والمراد الشرعي بها، وحكم لزومها والخروج عليها، وقد حوى المبحث خمسة مطالب هي: أولا:مفهوم الجماعة، ثانياً: أهمية الجماعة وضرورتها، ثالثا: الجماعة حفاظ على الإسلام، رابعاً: المراد الشرعي بالجماعة ووجوب لزومها وحرمة الخروج عليها، خامساً: أثر الجماعة على الفرد.
أما المبحث الثاني: الأدلة على وجوب لزوم الجماعة وحرمة الخروج عليها، فقد اشتمل على أربعة مطالب ناقشها مؤلف الكتاب باستفاضة، وهي: أولاً: الأدلة من القرآن الكريم، ثانيا: الأدلة من السنة النبوية، ثالثاً: الأدلة من الأثار، ليختمها بالدليل العقلي.
ويسرد د.أبا الخيل في المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم، الأدلة الدالة على وجوب لزوم جماعة المسليمن، والتحذير من الخروج عنها، ويورد قول الله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ويقول معلقاً على هذه الآية (فهذا دليل ظاهر ونص قاطع على وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولزوم جماعة المسلمين، والاجتماع عليها والرجوع إليها في كبير الأمور وصغيرها، ونهي صريح واضح عن الاختلاف والشقاق والتناحر، وبيان لفضل الله ومنته على أبناء هذه الأمة أن جعلهم أخوة في الدين، قال ابن أبي حاتم: لقى سمّاك بن الوليد الحنفي ابن عباس -رضي الله عنهما- بالمدينة، فقال: ما تقول في سلاطين علينا، يظلموننا ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟ قال ابن عباس: «لا، أطعهم يا حنفي ...»).
ويسهب د.أبا الخيل في المطلب الثاني: الأدلة من السنة النبوية، حيث يذكر الأحاديث الشريفة التي تدل على وجوب لزوم الجماعة، حيث يقول: (تضافرت الأحاديث وتكاثرت في الأمر بوجوب لزوم جماعة المسلمين، والتحذير من الخروج عليها؛ وهذه الأحاديث لها معانٍ عظيمة ودلالات قوية إذا علمها الإنسان وفهمها لم يقع في شك وحيرة، وكان ذلك دافعاً له لأن يسير على هدي وبصيرة في أمور دينه ودنياه، ومن هذه الأحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن أبي عاصم بروايات متعددة وأبوداود وغيرهما من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه يخرج من أمتي رجال يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يترك منه عرق ولا مفصل إلى دخله».
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي: الجماعة».
وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، من هي؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على وجود الافتراق قبل الإسلام وفي أمة الإسلام، بل إن أمة الإسلام تزيد على من كان قبلها في ذلك، وأن هذه الفرق كلها على خلاف الكتاب والسنة، ما عدا فرقة واحدة وهي التي تأخذ بالكتاب والسنة وتسير على هديهما وإن كانت قليلة.
الحديث الثاني: ما ثبت في الصحيحين: عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم».
قلت: يا رسول الله، هل بعد هذا الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن». قلت: يا رسول الله، وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر».
قلت: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». قال: قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قال: قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
قال ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور؛ لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم «دعاة على أبواب جهنم»، ولم يقل فيهم: «تعرف وتنكر» كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة..».
وقال الكرماني: فيه الإشارة إلى مساعدة الإمام بالقتال ونحوه إذا كان إماماً وإن كان ظالماً عاصياً والاعتزال إن لم يكن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، المراد: الجماعة الذين ينتظمهم إمام ظاهر، له شوكة وقدرة على سياسة الناس.
وقد روى نصر بن عاصم عن سبيع بن خالد، عن حذيفة ابن اليمان الحديث، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه».
وفي آخر مطاف أسئلة حذيفة -رضي الله عنه- سأل عن صورة لم تقع في زمانه، ولكن ليست مستحيلة الوقوع، حيث قال: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟
فأجابه صلى الله عليه وسلم بالمخرج من هذه الفتنة: وهو اعتزال تلك الفرق كلها؛ إذا لم يكن إمام يقاتل الناس تحت لوائه، يحمي حوزتهم، ويقيم حدود الله فيهم، وينصف مظلومهم من ظالمهم، فإن الفوضى ستعم فلا يستقيم حينئذ للمسلم إيمانه إلا بالاعتزال.
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: في الحديث دلالة على «أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر.
وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها»).
أما الأدلة على وجوب لزوم الجماعة من الآثار فإن د.أبا الخيل قد خصص لها عدة صفحات من هذا الكتاب، وهي ثلاثة عشر دليلاً، يقول في مطلع حديثه عنها: (هناك العديد من الآثار المروية عن الصحابة ومن جاءه بعدهم من التابعين والسلف الصالح لهذه الأمة تدل على أنهم طبقوا ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ومجتمعاتهم فيما يتعلق بلزوم جماعة المسلمين تطبيقاً فعلياً يلمس واقعاً حياً من خلال أقوالهم وأفعالهم وما سطره التاريخ عنهم ومن أبرز الأدلة على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: ما ثبت في قصة عمر رضي الله عنه حيث روى عمرو بن ميمون الأودي قال: لما طعن عمر رضي الله عنه، أمر صهيباً ليصلي بالناس ثلاثاً، وقال: «ليدخل علي عثمان وعلي وعبدالرحمن وطلحة وسعد والزبير، وليدخل ابن عمر من ناحية البيت وليس له من الأمر شيء، فقم يا صهيب على رؤوس هؤلاء فإن بايعوا واحداً ونكص رجل منهم فاجلده بالسيف، وإن بايع أربعة ونكص اثنان فاجلدهما بالسيف». والقصة معروفة مشهورة مسرودة في كتب السنة والتاريخ.
وذكرها ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- في قصة مبايعة عثمان رضي الله عنه.
الدليل الثاني: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر رضي الله عنه بالجابية فقال: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.
الدليل الثالث: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة».
الدليل الرابع: ما رواه أبو عامر بن عبدالله بن لحي قال: حججنا مع معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه، فلما وصل مكة وقام خطيباً فقال: «والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به» يقصد بذلك: لزوم جماعة المسلمين.
الدليل الخامس: عن الأوزاعي -رحمه الله- قال: «كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان:
«لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله».
الدليل السادس: إخراج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير -رحمه الله- في قوله تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} «82» سورة طـه «اهْتَدَى»: ثم استقام لفرقة السنة والجماعة.
الدليل السابع: قال يسير ابن عمرو رضي الله عنه: لما كان في الناس من القتل ما كان، سمعت بأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه سار، فلحقته بالسيلمين (موضع بين الكوفة والقادسية) فإذا هو في بستان قد توضأ، فأجلسته، فحمدت الله عز وجل وأثنيت عليه، ثم قلت: قد كان لك صاحبان، مفزعي إليهما: حذيفة بن اليمان وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما، وإني حدثت بمسيرك فتبعتك وإني لمحمود، وإني أنشدك الله عز وجل وأنشدك الإسلام إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في هذه الفتن إلا حدثتني وإن كنت لم تسمع إلا اجتهدت لي رأيك، فقال: عليك بتقوى الله عز وجل، وعليك بجماعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل لم يجمع أمته صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وأصبر حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.
الدليل الثامن: عن سليم بن الأسود قال: خرجنا مع أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقلنا له: أعهد إلينا. فقال: «عليكم بتقوى الله، ولزوم جماعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى لن يجمع جماعة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وإن دين الله واحد، وإياكم والتلون في دين الله، وعليكم بتقوى الله، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر».
وعنده: أن ذلك حين قتل عثمان رضي الله عنه.
وفي رواية أخرى: أن ذلك حين قتل علي رضي الله عنه.
الدليل التاسع: عن سويد بن غفلة قال: قال عمر رضي الله عنه:
«يا أمية، إني لا أدري لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا. فإن أمر عليك عبد حبشي مجدع فاسمع له وأطع، وإن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن أراد أمراً ينقص به دين فقل: سمع وطاعة، دمي دون ديني، ولا تفارق الجماعة».
وينتقل المؤلف إلى الفصل الثاني في الكتاب «جذور التطرف في العصر الحديث» وهو الفصل الذي يضع فيه د.أبا الخيل يده على جوهر المشكلة وأساسها، ويناقشها نقاشاً علمياً شرعياً فكرياً، وقد حوى هذا الفصل مبحثين؛ الأول: جذور التطرف في العصر الحديث وأوصاف الغلاة، والثاني: تحول الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى تنظيمات إرهابية متطرفة.
ويمهد المؤلف في المبحث الأول: جذور التطرف في العصر الحديث وأوصاف الغلاة، للحديث عن الجماعات المتطرفة، وقد فصل القول فيها في أربعة مطالب: الأول: الجذور التاريخية، والثاني: جذور فكرية وعلمية، الثالث: أوصاف الغلاة والمتطرفين، والرابع: جذور نفسية.
ويناقش في المبحث الثاني تحول الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى تنظيمات إرهابية متطرفة، ويفند عبر هذا المبحث الدعوى الباطلة التي يتبناها هؤلاء.
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى الفصل الثالث: نماذج من الجماعات الإسلامية المتطرفة في العصر الحديث، ويتناول أسفل هذا العنوان مبحثين مهمين، هما: جماعة التكفير والهجرة، وحزب التحرير.
أما المبحث الأول وهو الأكثر حساسية جماعة التكفير والهجرة كنواة للتنظيمات الإرهابية المتطرفة في العصر الحديث، فقد ناقشها د.أبا الخيل عبر عدة مطالب، وهي: الأول: أسباب نشوء الجماعة، والثاني نشأة الجماعة وأبرز المؤسسين لها، والثالث: مراحل انتشار فكر الجماعة وأبرز أفكارها ومبادئها.
أما المبحث الثاني: حزب التحرير، فقد تناول فيه د.سليمان، تفاصيل هذا الحزب، وفق عدة مطالب، وهي: الأول: النشأة وأهم الشخصيات، الثاني: أهم مبادئ الحزب مع مناقشتها، والثالث: واقع الحزب، والرابع: الموقف الشرعي من هذا الحزب.
وفي المطلب الثالث: واقع الحزب يضع د.أبا الخيل يده على الجرح الغائر في الأمة الإسلامية، حيث يناقش الواقع الحقيقي لحززب التحرير، مردفاً ذلك بالحديث عن الموقف الشرعي منه في حديث جريء وصريح وشجاع يكشف واقع هذا الحزب المنحرف، حيث يقول: (ركز الحزب نشاطه في البداية على بلاد الشام: فلسطين والأردن، وسوريا، ولبنان، ثم امتد نشاطه تبعاً لسياسته التي تتخذ المرحلية منهجاً للوصول إلى الغاية التي يسعى إليها الحزب، ولذلك تنامى شأن هذا الحزب، حتى صار متوغلاً في جميع البلاد، وفي دراسة وضعتها زينو باران مديرة الأمن الدولي والطاقة في مركز نيكسون في واشنطن دي سي، جاء فيها: (من الصعب تحديد حجم حزب التحرير بالضبط، وذلك لأنه يتكون من خلايا سرية، ولكن يقدر بأن عدد أعضائه يبلغ المئات في الدول الأوروبية مثل الدنمارك، ويصل إلى عشرات الآلاف في الدول المسلمة مثل أوزبكستان، وقد حظرت معظم الدول الإسلامية حزب التحرير، بالإضافة إلى روسيا وألمانيا، بعد أن أدركوا الخطر الذي يشكله أمامهم).
وفي مقابلة مع إبراهيم خليل إبراهيم الناطق الرسمي لحزب التحرير في السودان، وضح فيه انتشار الحزب في إفريقيا، وانتقد علماء السودان، ووصفهم بأنهم علماء سلطة، وأن السلطة أتت بهم لتبرر عملها أمام الناس.
بل الطريف أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر انتشر الإسلام في بريطانيا خاصة في صفوف النساء، ولكن بحسب هذا الفكر المنحرف، حتى أصبح أولئك النساء يحلمن بالخلافة، ففي مقابلة مع عدد منهن في بعض المواقع الإلكترونية بَينَّ السبب في دخولهن الإسلام وذكرن حلمهن بأن يتولين الخلافة.
وهذا يُظهر مدى تأثير هذا الحزب في الأوساط التي ينتشر فيها، كما أن لمثل هذا الخبر دلالته الأخرى في أن التأثير يتم بصورة أكبر على الدهماء والعامة، ومن يتأثر بعاطفته أكثر من تأثره بعقله أو بالشرع، وإلا فإن مثل هذا الشأن لا يخفى على من له بصر وبصيرة، وقد ساعد على انتشار هذا الحزب بأفكاره ومبادئه بصورة أكبر: التقنية الحديثة عبر الشبكة العنكبوتية، التي توصل المعلومة إلى أكبر قدر من القراء دون أي مسؤولية.
جاء في تقرير مديرة الأمن الدولي والطاقة في مركز نيكسون ما نصه: «بالرغم من أن حزب التحرير يخوض حرباً أيدلوجية لأكثر من قرن، إلا أنه قد حقق مؤخراً تقدماً كبيراً باستخدام أحدث الوسائل، ألا وهي الشبكة العالمية (الإنترنت)، وبالتأكيد فإن الوصول إلى الإنترنت في أي مكان من العالم هو أفضل طريقة لجماعة تنكر شرعية الحدود السياسية، وبإمكان المسلمين في أي مكان في العالم الوصول إلى مواقع حزب التحرير على الإنترنت بسهولة، وقد صممت مواقع حزب التحرير بشكل يجذب المسلمين الذين يتجولون عبر شبكة الإنترنت، والذين يشعرون بالاغتراب في مجتمعاتهم».
وبهذا يظهر أن الواقع بالنسبة لهذا الحزب خطير، ويستوجب النصح والتحذير، وبيان الموقف الشرعي من هذا التكتل، وهذا ما سيكون بإذن الله.
الموقف الشرعي من هذا الحزب
مناقشة مبادئ الحزب وأفكاره وطرقه ووسائله، كافية في بيان حقيقة هذا الحزب ومخالفته للمنهج الحق، وما عليه أهل السنة والجماعة، ويكفي في إظهار عوار هذا الحزب جنوحه إلى السرية في أعماله ودعوته، كما أن المخالفات العقيدة التي مرت هي الأخرى شاهد على ضلال هذا الحزب، ويتركز هذا الضلال بالإلزام بهذه المبادئ حتى لكأنها معصومة، وقد أجريت بحثاً لكلام علمائنا عن هذا الحزب فما وجدت شيئاً يشفي، إلا أن أحد الزملاء الذين كان لهم مواقف مع بعض هذه الفئة في بلاد الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية إبان قيامه بالدعوة والإمامة في رمضان جمع إشكاليات اعترضت طريقه، وعرضها على شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله رحمة واسعة -، فكان جوابه جواباً شافياً، ذلكم هو الدكتور إبراهيم بن محمد قاسم الميمن، أدون هنا الأسئلة وجواب الشيخ عليها، وهذا من نوادر الشيخ -رحمه الله.
نص السؤال: ينتشر حزب التحرير في أمريكا، وهذا الحزب تركيزهم على مسال الخلافة وقضاياها، بينما هم في واقعهم بعيدون عن الإسلام، فما هو القول الحق في مسائل الخلافة؟ وكيف يمكن مواجهة هؤلاء؟
- أجاب الشيخ - رحمه الله - بقوله: هؤلاء من المفسدين في الأرض، لا شك في هذا؛ لأنه ليس بهم قدرة على إزالة رؤساء الدول، وملوك الدول، حتى يقيموا الخلافة الإسلامية، والأمة الإسلامية من أزمنة بعيدة كانت متفرقة، حتى في زمن الخلفاء الراشدين، فالخلاف الذي بين علي رضي الله عنه وغيره ما زال إلى يومنا هذا، وهؤلاء بلا شك ما داموا بعيدين عن الدين في سلوكهم الشخصي لا شك أنهم إذا استولوا على المسلمين أو استولى أحد منهم سيكون الشر أعظم مما هو عليه اليوم، فنسأل الله تعالى أن يقطع دابرهم، وأن يبطل كيدهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، والواجب على الشباب المسلم أن يحذر من هؤلاء، وأن يبين خطرهم على الإسلام والمسلمين.
- سؤال: يا شيخ، هم يستدلون ببعض النصوص الشرعية التي ذكرت الخلافة ويموهون على العامة، وكثير من الناس يغتر بكلامهم؟
- الجواب: قال الشيخ -رحمه الله - ألم تعلم أن الجهمية والمعتزلة والخوارج بل والملحدين كلهم يعتمدون على أشياء متشابهة في الكتاب والسنة. ألم تعلم أن الله عز وجل قال في كتابه: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ .
- وهم لو قاموا بغير شبهة ما قبل منهم أحد، لكنهم يشبهون، حتى إبليس لما امتنع من السجود بأمر الله عز وجل لآدم - عليه السلام - أدعى شبهة. أهـ رحمه الله.
- وبعد: فإن كلام شيخنا غفر الله له وأسكنه فسيح جناته - كافٍ شافٍ في شأن هذا الحزب المنحرف، وصدق رحمه الله، فإنهم مفسدون ولا شك، وهذا أقل ما يُقال في حقهم، ولعل هذه الدراسة التي قمت بها مساهمة يسيرة مما دعانا إليه الشيخ من التحذير منهم وبيان خطرهم على الإسلام والمسلمين، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل).
هذا الكتاب المهم والقيم، يجمع القواعد الأساسية لمناقشة القضايا الحساسة وهي: الجانب الشرعي، والفكري، والواقعي، فهو يعتمد الموضوعية في طرحه، والجرأة في مناقشة القضايا الواقعية الحساسة، ونهنئ مؤلف الكتاب معالي الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل على هذا البحث العلمي المتميز.