لم تكن تلك اللحظات في حياة «س» الذي قرر فيها أن يتنازل عن نصف ثروته لأخيه «ع» محيرة إلا لمن يعرفه..، غير أنها تركت في دخيلته الكثير من الرضاء..، والقليل من الحزن..!!
رضي أن يُطمئن أخاه إلى أن الحياة ليست جميلة دون أن يكون إلى جانبه.. وكل أمر مادي آخر ليس ذا بال..، مع أنه ليس لأخيه «ع» أن يسائله عن ثروته ..، فهي ليست من أبيهما..، ولم تهبه إياها أمهما التي بقيت ربة بيت لم تحظ من الحياة بأكثر من ولدين وزوج فاضل..، وأيضا ثروته لم توهب له ضربة حظ..، بل هي ثمرة كد أفنى فيه عمره، وثمرة جهد مع أنها لم تكن غاية مراده..
لكن أخاه «ع» لم يقنع بهذا..، بعد فراق أكثر من خمسة وعشرين عاما لم ير فيها والديه وأخاه «س».. إلا في مأتم أبيه..!
«ع» أمضي كثيرا من السنوات بعيدا عن أسرته، حتى بعد أن علم بمرض أبيه لم يسرع في المجيء إلا بعد علمه بموته..، !
خمسة وعشرون عاما لم تكن كافية ليشوق لأهله..، وفي المدينة التي تبعده عنهم عشر ساعات طيرانا عاش يمرر أيامه في تجارته الخاصة، وهو في الغربة لم يجنِ في قلبه حنينا لهم، ولا شوقا إليهم ..، بل زادته طمعا في المزيد من المال.. والاغتراب..!
أما لحظة أن بلغه خبر موت أبيه، فقد برمت بشدة بوصلة تفكيره إلى حيث يظن أنه سيحصد ما يضيف لثروته الخاصة ما ظن من وجود ثروة لأبيه، .. فأبوه الذي عندما هجره كان فتيا في عمله، باذخا في العناية به وبأخيه «س» فكيف لا يجد من الإرث ما يستحق أن يهرول للحصول عليه..؟ فاتجه عائدا لهذا الغرض..!!
لم يكن يدري بأن مال أبيه قد بددته الأمراض، والتنحي عن العمل، واستهلاك ما في الجيب..، فأبوه قد أقعده الداء عقدا ونصف عن العمل، لكنه حينها التفت فوجد ابنه الأكبر «س» جواره، يحمله لبيته، يضمه تحت جناحيه، يهبه الحب، والرعاية، والوقت، والمال، والصبر براً به، وخوفا عليه.. لازمه ثانية بأخرى، قربا ورعاية، وإطعاما ورفقة..
في الوقت ذاته فتح الله عليه في عمله يعوضه ببره نجاحا تلو آخر، ومالاً مَزيدا في كل لحظةِ بركة ً، ونقداً..
هبطت بـ«ع» الطائرة ليجد مراسم العزاء في اليوم الثاني لموت أبيه في قصر مشيد ..، والناس إيابا وذهابا يدلفون معزين في وقار وحزن، ويذهبون ..
وهو يراقب كل حركة، وفي ظنه أن كل هؤلاء هم أصدقاء أبيه، ومعارف جاهه، وغناه..، لم يكن يعلم أن القلة لأبيه، وأن الكثرة هم معارف أخيه ذي الوجاهة، والطيبة، والمركز الرفيع ..، وأن ما شاهده ولمسه إنما هو دار أخيه بناها بعرقه وكده، وعمرها بوجاهته وطيبته..، وزهده وتواضعه..
أصر على أن ما فيه أخوه من العز، والجاه، والمال إنما هو ثروة أبيه.. وذهب يصر في المطالبة بحقه..
لم يجادله « س» ، لم ينكر عليه طمعه،لم يستغرب منه سلوكه، لم يجابه طمعه، وافتتانه بالمال إلا بالصمت، والرحمة ..، فأخذه إلى البنك صبيحة رابع يوم لوفاة أبيهما..، وهناك طلب كشفا برصيده أطلعه عليه..، ثم طلب من الموظف أن يجير نصف ما يملك لأخيه «ع»..!!
و«ع» يتمادى في جشعه..، وهما يتجهان للعربة يسأل عما إذا كان هناك ميراث آخر لأبيه..!!
لم تسدل الليلة الخامسة لموت أبيهما سترها إلا قد غادر عائدا من حيث جاء، وهو يتلمظ غضبا، وطمعا فيما يظن أنه لم يدرِ عنه تركة لأبيه..، بينما أبوه غادر وترك لأخيه «س» ثروة من الرضاء، والدعاء..، أما هو فلم يكن له من أبيه سوى فراغ من الخيبة، والحسرة، والدموع..!!
«ع» في الوقت الذي وضع جسده في الطائرة عائدا إلى مدينته البعيدة ..
جلس « س» حزينا يتأمل سرير أبيه الذي خلا منه...، يشم موضع رأسه، يضم وسادته إلى صدره.. يتلمس الفراغ الكبير الذي تركه له من بسمته، ودعائه، وقربه.. ودفئا لا يقوى على الصقيع من بعده..
لم يطرأ له ما استحوذ عليه أخوه..، فخسارته تمحورت في غياب جسد أبيه عنه..، دعاؤه، وبياض جبهته.. فرحته به، ورفقته له الليل الذي خلا منه..، و النهار الذي غابت شمسه فيه..!
نصف ثروته التي وهبها طواعية ليسد جشع أخيه، لم تكن أغلى عنده من أبيه..
«س» رجل بار في زمن يتهافت فيه الناس على مقعد وثير، وساعة باذخة، وعربة فخمة ..، وينسون من بهما تبنى الثروات، ويعظم الأجر، وتجمل الحياة، وتقوى العزيمة، وترفع المنازل، ويرضى الرب..
«س» و«ع» نموذجان واقعيان في الحياة ليس من نسج الخيال..،
وكثيرا ما سمعت لزوجة «س»، وعلمت منها عن فلاحه، وفلاح أبنائه ثمرة بره، وخلقه، وإيمانه.
فرشفة من بِرِّه تغني عن إرث الدنيا، وما فيها..!!