المجال المتاح لي، لن يمكنني من التفصيل في القول، والاستقصاء للشواهد، ولا سيما أنها جواثم في المواقع، مُيسَّرة لمن تلقاها بأذن واعية، ولكن :هل من مدكر ؟.
فأين نحن من [حزب البعث] و [القومية ] و [الاشتراكية ] و [الناصرية] و [الوحدوية] وسائر الأحزاب والمذاهب التي تعد بالمئات، والتي تحطمت على يدها وحدة الأمة،
وغرقت في أوحالها كرامتها.
واعتراضي ليس على مشاركة كُتَّاب الرأي عندنا في تثوير القضايا الحسَّاسَة، وإتيانها من أطرافها، ولا في مؤازرة الدولة في التصدي لخصومها، والمتربصين بها الدوائر، فكل ذلك حق مشروع.
كما أن امتعاضي لا يمت بصلة إلى التسطح على الأحداث، و لا يشير إلى ضحالة المعرفة بقواعد اللعب السياسية، ولا يومئ إلى الاهتياج الأعزال، ولا يقف عند الإسراف في الحب والكره، المؤدي إلى استحكام حلقات العزلة والفرقة. على الرغم من أن اخلاقيات الإسلام علمتنا قاعدة :- [أحبب حبيبك هونا ما، و أبغض بغيضك هونا ما] لتكون هناك فرصة للعودة.
ثم إن السياسة المتقلبة تُمَثِّل [فَنَّ الممكن]. وقديما قالت من تُسَمَّي بالرجل الوحيد في مجلس العموم البريطاني، كما يقال :- [ليس هناك صداقات تدوم، ولكن هناك مصالح تتقلب] وقد لمسنا ذلك، بل اكتوينا به، وركضنا في لزز السياسة، لاحتواء ذيوله . لقد اجتوتنا حُمى اللجاجة، وذهِلنا في أعقاب الصدمة عن احتواء ذيولها.
اعتراضي، وامتعاضي، واستيائي من التشويه المتعمد لتاريخ بلادي الحديث، واقتراف البَعْضُ من كتابنا تزويد العدو بوثائق الإدانة، كي يوهن عزائم دولة الإنسانية.
والأشد استياء أن يَرْقى الشك إلى رمز وطني كـ[الشاهد والشهيد ],ذلك الإنسان الذي لم يَحْنِ راسه إلا لخالقه، لمجرد أنه آوى المضطهدين، ودافع عن كرامة المستضعفين، واتقن استغلال الظروف لأمن وطنه واستقلاله.
[الملك فيصل] -رحمه الله- خاض معركة ضارية بين الإسلام، والشيوعية، وتصدى للعلمنة والاستغراب، والانقلابات العسكرية الدموية، واستطاع بحنكته، وحكمته، ورباطة جأشه، وصلابته في الحق أن يُشَظِّي تكتلات الخصوم، الذين ضربوا أطراف مملكته، وحاولوا استفزازه، وجر قدمه لحروب جانبية، تُعَمِّق العداوة بين الشعوب العربية المسلمة.
ومن المؤكد أن الظواهر السياسية لا تُبْتَسر، بل تؤخذ من خلال سياقاتها، وملابساتها، وتحاكم في ظل ظروفها.
و[فيصل] لم يكن بدعاً من الملوك والرؤساء في استغلال الظروف وتوظيفها لصالحه.
لقد فتح أرضه لكل من ضاق به وطنه، إخوانياً كان أو غير إخواني. و أمام تداخل الأصوات، احتفظ بسلفيته، ووسطيته. والأحداث التي توسل بها المخادعون، لم تكن وقفاً على بلادنا، ففي كل البلاد العربية ظهرت أحزاب، وطوائف متعصبة، ومتشددة.
والإرهاب ليس له دين، ولا زمان، ولا مكان. ومن الخطأ أن نساير الأعداء في اتهام مؤسساتنا، وقادتنا، أو أن نصف رموزنا بالغفلة والسذاجة ووطننا بالاغتسال، أو الوضوء من وضر الماضي.
قادتنا يعون واقعهم، ويمارسون المناسب لكل مرحلة. واحتفاؤنا بفلول الأحزاب بوصفهم لاجئين في مرحلة تاريخية حاسمة، لم يكن خطيئة، ولا جهلاً. لقد كنا نتقاطع مع بعضهم في أمور كثيرة، ومن مصلحتنا احتواؤهم في تلك الظروف.
وحين نختلف معهم اليوم، فإن المصداقية والعدل تستدعيان الدفع بالتي هي أحسن. إن مصلحتنا القومية، والاقليمية، والدينية تحتم علينا البراعة في صناعة الأصدقاء، وذلك ما كانت سياستنا تمارسه منذ عهد المؤسس.
و إذا حوسب [الملك فيصل ]على رحابة صدره، وبعد نظرة، وعمق انسانيته، ونقاء عروبته، وصفاء فكره، فإن لكل ملك أولوياته، وقضاياه التي فَرَضَتْ عليه الظروفُ اتخاذها، بوصفها إجراءات محمودة، وفاضلة في سياقها. وإن كانت مفضولة في ظل المتغيرات.
لقد آزَرْنا [صدام حسين ] ثم حاربناه. وحاربنا مصر الثورية ، ثم احتضنا مصر العروبة . وليس في الأولى خطاء، ولا في الثانية جهل.
لقد استعاد [الملك عبدالعزيز] - رحمه الله- الحجاز، وهو مليء بالقوميين العرب الهاربين من مطاردة الأتراك، ممن وضعوا لبنات المشروع القومي للملك [الحسين بن علي] رحمه الله. وبحكمة المؤسس، ودهائه، وعمق رؤيته، استوعبهم، واستعان بهم، واستثمر خبرتهم، ولم يكن لقوميتهم أيُّ تأثير على سلفيته الناصعة، بل لقد استطاع تعديل رؤيتهم، وإعادة ترتيب أولوياتهم.
[الشاهد والشهيد] فوق الشبهات، لقد تكسرت على سفوح إرادته الفولاذية أمواج المد الانقلابي الدموي العسكري، والهوس الاشتراكي، وتطامن دون قمة إبائه المتعملقون على السيقان الخشبية. ولو أن حُمَّى الانقلابات العسكرية وجَدَتْ فيه ضعفاً لكنا في خبر كان، ولكن الله سلم.
لقد تصدى للمتلاعبين بمقدرات الشعوب، المتقنعين بالقوميات، وبمقاومة الاستعمار. وضَمَّد جراح النكسة المُعَفِّرة للكرامة العربية، وآوى الشتات المشرد من بلاده من إسلاميين، وإصلاحيين. وأجهض التآمر الشرقي والغربي المتخذ من أرض الوطن العربي سوحاً للعبه القذرة.
لقد طرح مشروع [التضامن الإسلامي]، وصَعَدَ بالصوت الوسطي إلى مسرح الأحداث العالمية، لا ليكون شاهد عصر، وإنما ليكون فاعلاً ، ومتفاعلاً، ونداً، يبادل على قدم المساواة.
ذلكم هو [فيصل بن عبدالعزيز]- رحمه الله - الذي حاول المساس بسمعته من لا يعرف الفضل لذويه. أقول قولي هذا، ولا أزكي على الله أحداً، ولا أدعي العصمة، ولا القداسة لمخلوق، إلا لمن قال له وفيه خالقه :- {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.
إن علينا ترشيد خطابنا، وإدارة أزماتنا بالكلم الطيب، والقول السديد، والتجافي عن المهاترات، وجلد الذات. ومتى حِدْنا عن جادة الصواب، تكسرت النصال على النصال.
فلْيغتسل البراقشيون، ولْيتوضأ المتسطحون. فوطني، وقادته فوق الاتهامات الجائرة، والعلك الرخيص.