يشكل الإنفاق على الخدمات علامة فارقة في إستراتيجية الدولة في هذا العصر، فقد تم رصد مبالغ فلكية لتحسين تلك القطاعات وغيرها، لكن مع ذلك كانت النتائج غير مرضية في بعض الأحيان، وقد تنتهي بعضها بكارثة كما حصل في قضايا السيول والتصريف الصحي، وأخيراً في وباء كورونا وتراجع الخدمات الصحية، وقبل ذلك في تحول الخدمة التعليمية الجيدة إلى تجارة بحتة، كما هو حاصل في انتشار المدارس الأهلية وارتفاع رسومها، وفي غياب الجودة عن التعليم الحكومي.
ترفع النتائج غير المتوافقة مع الإنفاق الضخم أكثر من علامة استفهام عن الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، وقد كان استحداث هيئة لمحاربة الفساد أحد الحلول للحد من النتائج غير الإيجابية، ومن هدر المال العام، وتبذل الهيئة جهودا، لكنها تصطدم في بعض الأحيان إما بالمحسوبيات أو عدم التجاوب، وحسب رؤيتي المتواضعة يكمن الخلل في فلسفة الإدارة المطبقة، والتي تمنح المسؤول الصلاحية المطلقة في إعداد الإستراتيجية والتنفيذ والمراقبة، مما يوفر بيئة خصبة للإخفاق والفساد.
كانت تجربة وزارة الصحة الأخيرة مثالاً حيا على ذلك، فقد تدنت الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية والتخصصية بسبب قيام الوزارة بالمهام الثلاث، وبالمركزية الإدارية التي كانت تدير من خلالها المشاريع والمستشفيات، وإصرار الوزارة على تصدير إستراتيجيات كانت الوزارة خلف إعدادها إلى القطاعات الصحية الأخرى، وفي اتجاه آخر يشهد المجتمع نهضة صحية تجارية، في سيناريو مشابه لما يحدث في التعليم.
كان من نتائج تلك الحقبة تطبيق كادر طبي موحد على مختلف الكوادر الطبية برغم من اختلاف المسؤوليات والإنتاج والتخصصات، في استدعاء خاطئ لأنظمة بالية من البيروقراطية العربية المستمدة من أوروبا الشرقية، وهو ما يخالف أبسط قواعد العمل تقييم الإنتاجية في عصر الحوافز والإنجاز وتحقيق الأحلام، كان المستفيد منه المستشفيات الخاصة.
كان منها ربط مختلف المستشفيات المتخصصة والمدن الطبية بمرجعية وزارية إدارية موحدة، مما أدى إلى تحول تلك المستشفيات إلى أقسام إدارية لا تملك صلاحيات في تطوير الخدمات الصحية المتخصصة وتخضع لتعاليم موحدة من الوزارة، ومما نتج عنه ارتفاع في مستويات المحسوبية والمصالح الخاصة، فقد أصبح المدير يراعي كثيرا من مصالحه عبر إرضاء الوزارة ومسؤوليها، وهو ما قاد إلى تعميم الفكر الإداري المركزي الذي يراعي مصالح فئوية من أجل الاستمرار في المنصب.
كان من أهم سمات التأثير الوزاري على المستشفيات المتخصصة أن يعمل المدير ضمن دائرة ضيقة من الإداريين، اختارهم بعناية للتحكم بكل التفاصيل، ثم بناء جدار عازل بينه وبين الكوادر الطبية، بعد أن نجح قرار تجميد الرواتب في تحويل الأطباء والكوادر الطبية إلى الهامش في بيئة العمل، ووصل ذلك لانفصال إلى حد القطيعة مع الدائرة المركزية المغلقة، وإن كان الأمر له علاقة بالحقوق المهنية والأخلاقية.
كان من نتائجها أيضاً اختفاء الاجتماعات الدورية بين الأطباء والمسؤولين التنفيذيين، لتعم الكآبة بسبب حالة التفرقة بين المهنيين المواطنين والأجانب، وبسبب انفراد الفئات الإدارية الطبية وغيرها بكل الحوافز التشجيعية، وغياب العلاقة الطردية بين الحافز والإنتاج بعد حرمان الكوادر الصحية السعودية منها، وقد وصل الحال إلى أن الإداري أو المهندس المستجد قد يبدأ براتب أكثر من الاستشاري السعودي الجديد، وذلك لتحرره من سلم رواتب الصحة، في مشهد أقرب للعنصرية المهنية!
تميزت الإستراتيجية الصحية السابقة بتفوق بناء «الكونكريت» على إستراتيجية بناء الإنسان، ويظهر ذلك في المشاريع الإنشائية العملاقة في مختلف المناطق والمستشفيات، في حين كنا ننتظر أن يتم التعاون مع جامعات متخصصة في بناء الكوادر الطبية في مختلف المجالات الطبية المساعدة، إما من أجل تأهيل كوادر جديدة، أو لإعادة تأهيل المحرومين من التوظيف بسبب ضعف مؤهلاتهم، ودائما ما يتساءل الكثير عن تشغيل تلك المباني الشاهقة في ظل فقر الكوادر البشرية السعودية، وفي ظل هروب الكوادر الطبية من ذوي الخبرة من القطاع العام إلى الخاص بسبب غياب الحافز والاتصال.
باختصار، مهمة وزير الصحة المكلف الدكتور عادل فقيه أكثر من شاقة، وقد تؤثر عليها كارثة كورونا، لكن دعوة معاليه لشركة أرامكو لتشغيل مستشفى في شرق جدة لفتت انتباهي، وكأنه بذلك يقترب من تشخيص الموروث الإداري، فالثقافة الإدارية غير الصحية وصلت إلى حد الوباء في بعض المدن الطبية والمستشفيات المتخصصة، وربما أغلبها، فالخطوات التي بدأت قبل عشرين عاماً في اتجاه تأسيس مراكز طبية على طراز مايو كلينيك وكليفلاند وغيرهما تراجعت، بل تأثرت كثيراً بانتقال التقاليد الإدارية في وزارة الصحة إليها.
ختاماً، على وزارة الصحة في ثوبها الجديد أن تتخلص من موروثها الإداري القديم، وأن يتم تطهير المدن الطبية المتخصصة من ذلك النمط الإداري، وأن يتم تحويلها إلى مؤسسات طبية مستقلة غير هادفة للربح، من خلال الاستعانة بخبرات طبية عالمية في الإدارة الطبية من أجل إعادة تنظيمها إدارياً، ومن أجل إعادة المسار إلى طريقه الصحيح، وهو الوصول إلى مستشفيات متخصصة متطورة، تضاهي نظيراتها في بوسطن وغيرها، لكن الخطوة الأهم أن يتم تحديد مسؤولية الوزارة في المهمة التنفيذية فقط، وتكليف جهات متخصصة في إعداد الإستراتيجيات، وأخرى في المراقبة المالية والإدارية، والله على ما أقول شهيد.