كانت السياسة عبر التاريخ القاسم المشترك في أحاديث الناس، لكنها في الزمن الحاضر أصبحت الشغل الشاغل الذي لا يتوقف الكلام فيه، فالكل يدّعي وصلها، والكل يحملها الإخفاقات والنجاحات، وبسبب ذلك تطوّرت السياسة إلى أن تكون المتحكّم الفعلي في حياة الشعوب، والعامل الأكثر تأثيراً في استقرار الأمم.
السياسة كيان متغيّر، وتؤثر فيها ثقافات الشعوب كثيراً، كذلك كان الدين عاملاً رئيسياً في فصول السياسة ودوراتها، وكان في الماضي بمثابة الهالة المضيئة حول السياسي، لكن الجديد في الأمر أنه خلافاً لما مضى من تاريخ البشرية، أصبح الإنسان العامي أو رجل الشارع أكثر حديثاً في السياسة من السياسي ذاته، والذي أصبح يحرص على معاني كلماته التي يدلي بها، ويحاول أن لا يخرج عن النص، خوفاً من إثارة الرأي العام.
في الأزمنة الماضية كان الهمس حيلة الناس عند الحديث في السياسة، لكن سرعان ما يثير أحدهم المخاوف عندما يشير إلى أنّ للجدران آذاناً، عندها يتحوّل الكلام إلى صمت خوفاً من زوار الفجر، وكان الناس يتفنّنون في نقل الحكاوي والقصص عن عقوبة الحديث في السياسة، فقد كانت في أزمنة ليست ببعيدة أحد المحرمات الثلاث، وربما أشدها حرمة، وأقساها عقوبة، لذلك كان كبار القوم ينهون الصغار عن الحديث فيها، وذلك لئلا يحدث لهم ما لا تحمد عقباه.
لعل المتغيّر الأهم في العقود الأخيرة، كان انتقال سدنة الإعلام من وصاية السلطة السياسية، إلى حسابات ملاك التقنية والاقتصاد، وإلى رغبات مستخدميها في الوسائل الاجتماعية، وقد أصبحت بعد ذلك التحوّل شديدة الوضوح في إظهار كيف يفكر الناس، وكيف يتناولون قضايا السياسة، ومهما اختلفنا عما يُطلق عليه بثورات الربيع العربي، فقد فجّرت تلك الأزمات الحديث في السياسة، وفتحت المجال إلى إدخال الجميع في تناول شؤونها وأخبارها في صور غير مسبوقة.
أصبح من السهل أن تشاهد على خارطة التعبير في تويتر الموقف الشعبي مباشرة من الأخبار والقضايا اليومية، وعن ماذا يريد الناس ؟، وما يرجون من السياسي ؟، وقد يرى البعض أنّ الأمر أصبح أكثر إحراجاً للسلطات، لكن آخرين يرون أنّ وسائل الحوار الشعبية أظهرت ثقافة الشعوب على حقيقتها، وتستطيع من خلال متابعة دقيقة أن تعرف ثقافة المجتمع وكيف ينتج سلطاته، كذلك أصبح في مقدور السلطات أو مراكز القوى في المجتمعات أن تحصل على إحصائيات تفصيلية عن المجتمع، وبالتالي يستطيعون مواكبة المتغيرات إن استدعت الحاجة.
ما أريد الوصول إليه من خلال المقدمة الطويلة أعلاه، أنّ في كل شعب أو مجتمع في العالم توجد قوى وسلطات تحكمها إما في الظاهر أو في الباطن ، و الاختلاف بينهما هو طرق السيطرة أو التحكم بالناس، والتي تختلف بالتأكيد على سبيل المثال ما بين السويد ونيجيريا، أو بين النمسا والفلبين، أو بين النرويج وقبيلة في أدغال أفريقيا، وهو ما يعني أنّ المجتمعات بثقافتها ودرجة وعيها وتطورها تنتج سلطتها السياسية والملائمة لها، وتأتي درجة تطور السلطة أو القوة بمقدار التطور أو التخلف الكامن في المجتمع أو القبيلة.
لذلك من المستحيل على سبيل المثال، أن تقبل شعوب إسكندنافية أن يحكمها جنرال نيجيري، أو أن تقبل إيطاليا حكم آية من آيات الحكم في إيران، أو أن يحكم جنرال شيوعي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أنّ الشعوب تنتج سلطاتها وأنّ ثقافة الشعوب في عمقها التاريخي تختار بعفوية من يحكمها، أو بتعبير أكثر دقة « كما تكونوا يولى عليكم «، وذلك نتاجاً لعوامل الثقافة والدين والتاريخ والحضارة ومختلف العوامل المؤثرة في إنتاج السلطة الحاكمة بين شعوب الأرض.
بعبارة أخيرة، أظهرت الشفافية الإعلامية المعاصرة أنّ للشعوب ثقافات مختلفة، ولديهم منتجات سياسية، وأن ندرك متأخرين أنّ هذه الشعوب لم تكن في حقيقة الأمر على الهامش، لكنها كانت من حيث لا تعلم العامل الأكثر تأثيراً في إنتاج السياسة ورموزها وسلطاتها.