استخدمت جماعة بوكو حرام المتشددة اللغة العربية الفصحى لإعلان بيان اختطافهم للفتيات النيجيريات، وكأنهم يؤكدون مرة أخرى أن اللغة العربية أصبحت لغة لإعلان بيانات الإرهاب والتشدد، بينما هي لغة القرآن والعلم والمعرفة والوعاء الحضاري الذي انصهرت فيه علوم الشريعة والقانون والفلسفة والطب والكيمياء والجبر والفلك، لكنها منذ عصور الانحطاط أراد هؤلاء تحويلها إلى لغة على الهامش، وقصرها على الوعظ الديني والأدب والفن.
في جانب آخر تُستخدم في بعض الأحيان اللغة العربية لتشويه الوعي العام أو لإيصال معلومات مغلوطة عن الحقائق العلمية، وقد ظهر ذلك في أزمة كورونا الأخيرة، عندما كانت التصريحات وبعض البيانات الإعلامية باللغة العربية للناس تخالف الحقائق العلمية التي تنشرها المنظمات العلمية والمجلات المتخصصة، وقد كان الضحية المواطن الذي لا يستطيع أن يطلع على الحقائق العلمية بسبب العائق اللغوي.
العائق اللغوي من أهم أسباب التدهور في العقل العربي في هذا العصر، وعلى وجه الخصوص العقل الديني المجتهد في إصدار الفتاوى للناس، والذي لو قدر له أن يطلع على نتائج العلم الحديث لما تورط في إصدار فتاوى تخالف العقل أو تشوه الوعي العام، كما هو حاصل في التعامل مع المستجدات ، كما أحدث العائق اللغوي أيضاً قصوراً عند بعض المسؤولين والمواطنين في فهم المستجدات الحديثة في مختلف المجالات، وأعني بذلك مجالات البيئة والزراعة والمياه والصحة العامة والإدارة، ونتج عنه قصور في إيجاد الحلول لأزمات مزمنة.
كان اهتمام اليابان بعملية ترجمة العلوم إلى اللغة اليابانية خلال المائة عام المنصرمة رائداً بكل ما تعنيه الكلمة، فقد أولت اليابان اهتمامًا خاصًا بالترجمة منذ بداية نهضتها في أواسط القرن التاسع عشر حتى الآن، وما زالت من أكثر دول العالم سخاءً في الاستثمار في الترجمة، واستخدمت الترجمة الآلية، فتوسعت الترجمة عبر أجهزة متخصصة ساهمت في إثراء معرفة اليابانيين بجميع الدراسات العلمية الرصينة، في مختلف النواحي العلمية والتكنولوجية من مختلف دول العالم.
على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي يعانيها كل من يتعلم اليابانية، قراءة وكتابة، نجح اليابانيون في تعزيز لغتهم غير المرنة ،وتطويعها لكل أشكال العلم والتكنولوجيا، وبذلك أخرجوا العقل الياباني من عزلته، وتحولت اليابان بعد ذلك إلى دولة عظمى في الاقتصاد والعلوم وفي التاريخ الإنساني.
ما يعانيه العقل العربي في الزمن الراهن من تخلف واضطراب واختلال في فهم المتغيرات هو بسبب غياب نتاج العلم الحديث في وعاء اللغة العربية، مما أحدث فجوة تصل في بعض الأحيان إلى حد القطيعة بين ما يجري في العالم الحديث ، وبين ما يحدث في عالم العرب ، وقد أدت هذه القطيعة إلى خروج عالمين أحدهما يُتهم بالتغريب و منفصل عن واقعه بسبب يأسه من الواقع ، والآخر مسكون بلغة التطرف والتعصب، ويحارب أي محاولة جادة لإيصال المفاهيم العلمية الحديثة للمجتمع على أنها نوع من التغريب، تماماً مثل ما تفعل جماعة بوكو حرام، والتي تعني «ضد التغريب».
جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة التي تم تأسيسها في أكتوبر 2006م، تحمل ضمن أهدافها تشجيع ترجمة العلوم إلى اللغة العربية، وقد أصبحت لها إسهامات واضحة، لكن نطمع أن تصل إلى مستوى تقنية الترجمة اليابانيه، والتي تترجم آلياً أكثر من ثلاثين مليون صفحة في السنة الواحدة، وبصورة فورية.
ولئلا يساء فهمي لست أطالب هنا بتعريب التعليم الجامعي في العلوم، ولكن أرجو يوما ما أن تصبح لدينا مكتبة عربية رقمية تملك أدوات الترجمة الفورية لمختلف العلوم الحديثة، ومتاحة لمختلف أطياف المجتمع، لما في ذلك من فائدة للمواطن في مختلف المجالات، ومن أجل أن يكون الإنسان في هذا الوطن مواكباً في فهم المتغيرات العلمية المتسارعة، وقبل ذلك أن ننقذ اللغة العربية من أن تكون فقط لغة للتطرف ووسيلة لتشويه الوعي عند الإنسان المسلم.