القصة التي أشغلت الرأي الأكاديمي والثقافي في كندا خلال الأيام الماضية، وشدت انتباهي، تتعلق بعميد كلية الصحة العامة بجامعة سسكاتشوان الدكتور روبرت بكنجهام، حيث تم فصله ثم إعادته خلال أربع وعشرين ساعة. القصة تتمثل في أن الدكتور روبرت ظهر علناً وانتقد بعض سياسات الجامعة المتعلقة بإعادة هيكلتها، والتي كانت تهدف إلى دمج بعض برامجها وتقليص عدد أعضاء هيئة التدريس وتخفيض التكاليف التشغيلية، إلخ. ذلك النقد العلني اعتبر غير لائق من قبل إدارة الجامعة وبالذات نائب رئيس الجامعة المسؤول عن الشؤون الأكاديمية، حيث ما كان يفترض أن ينتقد العميد سياسة الجامعة وهو جزء منها، وعليه أصدر قراراً فورياً بتجريد الدكتور روبرت من منصبه كأستاذ وكعميد كلية. بعد أربع وعشرين ساعة وبعد تظاهر الطلاب والأساتذة صرحت رئيسة الجامعة بأنه بإمكان الدكتور العودة لعمله. بينما تقدم نائب رئيس الجامعة باستقالته من منصبه نتيجة لذلك. بعدها وخلال أسبوع تقريباً اجتمع مجلس الجامعة الأعلى وكان له كلمته التي قادت إلى خسارة رئيسة الجامعة منصبها كذلك. وأحد المبررات المعلنة هي إضرار ذلك التصرف بسمعة الجامعة كمؤسسة تحترم الحريات الأكاديمية والفكرية وحقوق منسوبيها في التعبير. مع تأكيد المجلس حق عضو هيئة التدريس بالعودة لمنصبه كأستاذ جامعي وليس بالضرورة كمسؤول إداري بالكلية، لأن عميد الكلية كان يفترض أن يكون أكثر لباقة في التواصل مع إدارة الجامعة التي يُعد جزءاً منها.
احتجاج الأساتذة في الجامعات الكندية والطلاب بجامعة سسكاتشوان مصدره القلق حول الحريات الأكاديمية، وهل يمنع الأستاذ الجامعي من التعبير عن رأيه أم لا؟ وجهة نظر نائب رئيس الجامعة كانت ترى بأن العميد يعد جزءاً من المنظومة القيادية بالجامعة وما كان له أن ينتقد سياسة الجامعة علناً، ولأجل هذا الموقف تم فصل الدكتور، وبسبب ذلك التصرف خسر الرئيس ونائبه منصبيهما. ليست القضية هنا قانونية، رغم أن جمعية أعضاء هيئة التدريس هددت بأنها ستدرس الخيارات القانونية مستقبلاً ضد إدارة الجامعة وقياداتها، وبالذات والأمر يتعلق بخطوات من شأنها تقليص عدد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة.
القضية أو المبدأ الأقوى الذي غلب هو مبدأ الحريات الأكاديمية المتعارف عليها. أو ما يسمى بالأعراف الأكاديمية سواء المكتوبة أو غير المكتوبة. طبعاً الجمعيات الأكاديمية باشرت على الفور بالتعبير عن رفضها تجاوز مبدأ الحريات الأكاديمية، بما فيها حرية التعبير أمام الرأي العام عن أي موضوع يخص الجامعة.
إذاً، هناك أعراف أكاديمية، وهناك حرية التعبير، وهناك سمعة الجامعة، وهناك حقوق أعضاء هيئة التدريس، وهناك رأي عام يجب أن يراعى ولا يرضى باختراقه، بغض النظر عن المبررات. والقائد الإداري عليه تحمل مسؤوليته والمبادرة بتقديم استقالته، وإن لم يبادر فهناك مجلس أعلى تهمه سمعة الجامعة ولا يرضى المساس بها، حتى ولو كان ذلك من رئيس الجامعة أو نائبه، وحتى لو كان ذلك سيحدث بعض الصعوبات الإدارية والمادية على المدى القريب.
قضية أستاذ جامعة سسكاتشوان لا زالت طازجة ومجرياتها تتفاعل في الإعلام الكندي وفي أروقة التعليم الجامعي، وهناك شبه إجماع على أنه يحق لعضو هيئة التدريس التعبير عن رأيه حتى ولو اختلف ذلك الرأي مع وجهة نظر القيادات العليا للجامعة. بل إن مثل هذه القضايا تتحول إلى حالات يتم دراستها وتسهم في تطوير الفكر والأنظمة الأكاديمية.
انتهت مساحة المقال ونختم بالمقولة «حنا في المدرج ونتفرج»!