من خلال قراءاتي وكذلك نقاشاتي وحواراتي -خاصة في تويتر- مع كثيرين في مسائل وتفاصيل دقيقة حول قضايا لها علاقة بالفقه الإسلامي، وجدت أن التشدد هو آفة الدين، كما أن التسامح هو دافع من دوافع انتشاره بين الناس، والتسامح والرفق صنوان؛ وفي الحديث: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه)؛ غير أن ما يزيد الطين بللاً حين يكتنف التشدد جهلاً، ويزداد البلل أكثر عندما تسيطر على الإنسان، خاصة الملتزم وهو في مقتبل عمره، نزعة مؤداها أن التشدد والغلظة إذا واكبت التشدد، فإنها تكون أقصر الطرق إلى المكانة الاجتماعية، والفوز بالجماهيرية والشهرة؛ هنا يُصبح التباري على التشدد للفوز بالمكانة والقيمة الاجتماعية، هو المسيطر على مضامير السباق بين الشباب الطامح.
وقد دخلت في نقاشات حول قضايا معينة، أغلبها حملني عليها الشباب المتشددون حملاً، وإلا فلا أجدها ذات قيمة تُذكر في مسيرتنا التنموية. غير أنها كشفت لي بوضوح أننا في أمس الحاجة للوعي والاطلاع وثقافة، وهذا لا يقتصر على عامتنا فحسب، وإنما على كثيرين -أيضاً- ممن يُحسبون من النخبة.
خذ -مثلاً- ما يُسمى (الطب النبوي)، أو ما بيسميه آخرون، وهم الأقرب إلى الصواب في تقديري، (طب عصر النبي). فقد وجدت أن ثمة معادلة تنطبق على العالم من أقصاه إلى أقصاه، مقتضاها إذا تطور الطب التجريبي في أي مكان في العالم استفاد منه بقية البشر؛ أما نحن فنتناولها معكوسة، مؤداها: كلما تطور الطب في العالم أكثر كلما ابتعدنا عنه أكثر، وبدلاً من أن نواكب العالم المتحضر، ذهبنا نفتش في المأثور والتراث؛ وكأن الطب شأنٌ ديني يختص به الوحي والثابت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، بينما هو علم دنيوي بحت، يتغير ويتطور؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وقد أفرد الإمام مسلم -رحمه الله- باباً في صحيحه سماه: (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي)؛ والطب شأن دنيوي من معايش الحياة، يقوم على التجربة والرصد والملاحظة، ومن ثم تُستخلص منها النتائج، ومنها يتحدد العلاج. ومن قرأ السيرة النبوية يجد أن الرسول الكريم كان يُفرق ما بين ما هو عمل دنيوي محض وما هو شأن ديني؛ وهذا ما نص عليه نصاً عليه أفضل الصلاة والسلام في تعليقه على تأبير النخل في المدينة، وكأنه يدل أمته على التمييز بينما هو ديني وما هو دنيوي: (إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله). كما أشار الإمام القرافي -رحمه الله- إلى أن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته نوعان، منها ما هو تشريعي، ملزم لمن بعده حتى قيام الساعة، ومنها ما هو مرتبط بجُبلّته البشرية واجتهاداته كإنسان في عصره، مثله مثل بقية البشر.
وليس صحيحاً أن أي حديث إذا صح سنده، تُترك مقتضات فحواه، حتى عند أعلام أهل الحديث أنفسهم؛ فابن القيم -رحمه الله- في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) الذي حققه «عبدالفتاح أبو غدة»، أكد على سلامة النص وضرورة تماهيه مع الحس السليم؛ يقول في الفصل الخامس من الكتاب: (وسُئلتُ: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط، من غير أن يُنظر في سنده؟). ويجيب -رحمه الله- بالإيجاب، ويطرح أمثلة على ذلك، فالنص الضعيف أو الموضوع في تقدير ابن القيم يُنكره من عرف سيرته، واضطلع بأحواله ومعيشته عليه أفضل الصلاة والسلام، وكأنه واحد من أصحابه، ثم يقول في الفصل السابع من الكتاب، عن ضوابط قبول الحديث: (تكذيب الحس له، كحديث: «الباذنجان لما أكل له».. ). ثم يضيف: (وكذلك حديث: «إذا عطس الرجلُ عند الحديث فهو دليل صدقه»؛ وهذا -وإن صحح بعض الناس سنده- فالحس يَشهدُ بوضعه، لأنا نشاهد العطاس والكذب يعملُ عمله، ولو عطس مائة ألف رجل عند حديث يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بصحته بالعُطاس، ولو عطسوا عند شهادة زور لم تُصدق). لاحظ قوله رحمه الله: (وإن صحّحَ بعض الناس سنده)؛ وأتذكر - بالمناسبة- أن بعض البسطاء من الصحويين، بل وبعضهم من طلبة العلم -للأسف- حينما قلت رأيي في حديث التداوي بأبوال الإبل، وبررته بأن الحس السليم يرفضه، أقاموا عليَّ الدنيا، وطالبوا بمحاكمتي على هذه (الطامة) فكيف أحتج (بالحس) معياراً يُرد به فحوى حديث؛ بل وذهب بعض غلاة الصحويين، كما هي (موضتهم) هذه الأيام، إلى أن طالبوا (بحز رأسي في الصفاة عند الجامع) كما دعا بذلك علناً في تغريدة له في تويتر رئيسُ قسم أكاديمي في الأبحاث يحمل درجة (بروفيسور) بجامعة الملك سعود قبل أيام (تصوروا؟!)؛ ما يجعلني أجزم أنهم، وجامعاتهم -للأسف- (مساكين)، وبسطاء، ولا يقرأون، لذلك كشفوا ضحالتهم وضحالة ثقافتهم الدينية. وأجزم، بل وأكاد أقسم، أنهم يجهلون قول ابن القيم هذا رحمه الله.
لذلك أقول، وأكرر، وأنا مسؤول عن كل كلمة أقولها هنا، وأثبَتُها أكثر من مرة: إن هذه الصحوة المسيّسة، إذا خالط صحوييها جهلٌ وحمقٌ وتشدد، وطبعاً (أدلجة)، أي جهل مركب، واكتنفتها أطماعٌ و(بزنس) من خلف الستار، فقل على الأديان وصحة الأبدان وتنمية البلدان السلام.
إلى اللقاء.