كثيرون من المسلمين استهجنوا تصريح أحد زعماء حركة «بوكو حرام» الإسلامية، حينما خطفت حركته عدداً من النساء، ثم صرح أنهن (سبايا)، وأنه سيبيعهن كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية.
التصريح لم يُقره عليه أحد من المسلمين، ولاقى استهجاناً من المسلمين قبل غيرهم. غير أنّ ما بنى عليه قادة ومنظرو هذه الحركة المتأسلمة الرديكالية مطالباتهم عليها، لها أصل ومرجعية في أمهات (كتب الفقه)، ويجدها أي باحث في مؤلّفات فقهاء جميع المذاهب، وتحديداً في القسم المتعلّق بالرق والسّبي وشروطه؛ بل وهناك من طلبة العلم من يُعلن على رؤوس الأشهاد أنّ استرقاق الرجال وسبي النساء مازال مشروعاً إلى اليوم، وهو من مُحفزات الجهاد المشروعة؛ يقول - مثلاً - الشيخ المعاصر «عبدالرحمن بن ناصر البراك» - (مدرس عقيدة متقاعد من أساتذة جامعة الإمام) - في موقعه الرسمي على الإنترنت، عند حديثه عن الجهاد : (وكذلك أحل الله لأوليائه المسلمين سبي نساء أعداء الله الكافرين المحاربين وذريتهم، بحيث يكونون ملكاً للمسلمين، ورقيقاً في أيدي المسلمين، كما مضت بذلك سنّة النبي ? وخلفائه الراشدين، والتابعين لهم بإحسان، وكم كان هذا السبي والاسترقاق سبباً لسعادة من وقع فيه لدخوله في الإسلام).
والسؤال الذي لا بد من طرحه على بساط البحث والإجابة عليه : هل ثمة إمكانية لتفعيل فقه (الرق)، وتجاوز الواقع والمتغيّرات، واعتبار أنّ (الرق) بشروطه الفقهية كما أقرها وحددها الفقهاء في الماضي، يُمكن أن تعود ممارسته؟
الرق والسبي في الماضي ممارسة كانت مشروعة، ليس لدى المسلمين فحسب، وإنما لدى كل الأمم، مسلمين أو غير مسلمين؛ الآن اختلف الوضع، وأصبح الاتجار بالبشر من المحظورات عالمياً بشكل صارم، ومن دعا إليه، ناهيك عمّن أقدم عليه، فردٌ كان أو حركة أو دولة، يكون في أعراف العالم اليوم (مُجرماً) يجب ملاحقته ومعاقبته عقاباً رادعاً. لذلك فإنّ من أولى أولوياتنا كي تكون الشريعة متماهية مع العصر وشروطه، أن نُعيد قراءة الفقه الإسلامي التاريخي برمته قراءة موضوعية، واقعية، منطلقة من أن ليس ما كان (مباحاً) عند فقهاء الماضي يكون بالضرورة مباحاً في عصرنا، كما يُردد بعض المتشدّدين الذين يعيشون بأجسادهم معنا، بينما أذهانهم لا علاقة لها بالعصر قدر علاقتها بالماضي والتاريخ السحيق.
ولعل من لطف الله جلّ وعلا بعباده، بل وربما أنها من أسباب مرونة الشريعة الغراء، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، أنَّ من صلاحيات (ولي الأمر) المشروعة التي لا يُنازعه فيها منازع حقه في (تقييد المباح). ومرجع هذه الصلاحية الواقعية أنّ (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) كما يقول «زين الدين بن نجيم الحنفي» في كتابه (الأشباه والنظائر)؛ كما أنّ من أقوى الأدلة على جواز (تقييد المباح) منع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الزواج من الكتابيات في زمنه، مع أنه كان مباحاً في زمن الرسول ?، وعندما تطلّبت المصلحة - حسب تقديره - المنع، قَيّدَ هذا المباح، ومنع الزواج منهن؛ ولم أقرأ أنّ أحداً من الصحابة - رضوان الله عليهم - اعترض، أو نازعه في ما منعه؛ ما يعني أنّ ما ذهب إليه ابن نجيم في (النظائر) كان صحيحاً، فتصرف الإمام منوط بالمصلحة؛ ولا خلاف على أنّ المصلحة متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان والظروف، وقد أعطت الشريعة لولي الأمر، تقدير هذه المصلحة، وفرض العمل بها فرضاً على المسلمين، ومن نازعه فقد نازع الأمر أهله. ولعل منع السعوديين الزواج من غير السعوديات، مع أنّ الأصل الإباحة، ينطلق أساساً من أحقية ولي الأمر بتقييد المباح.
ما تقدم يمكن الخروج منه بالقول إنّ ما كان مشروعاً فقهياً في (تاريخنا الماضي)، كمشروعية الرق - مثلاُ - وغيرها من المباحات التي قد تتعارض مع شرائع حقوق الإنسان اليوم، لا يعني أنّ شرعيتها في الماضي تكفي كدليل لتكون مشروعة في عصرنا؛ فتصرفاتنا التشريعية يجب أن تكون منوطة بتحقيق المصالح لا بما كان مشروعاً فقط في عصر غير عصرنا.
إلى اللقاء..