أبي... أحقا رحلت عن هذه الحقيرة التي عظمناها.. والفانية التي خلّدناها؟
نعم يا ولدي رحلتُ إلى من هو أرحم بي من نفسي.. فيممتُ وجهي صوب ربي في اليوم الذي كنت أتمنى عليه بأن يأمر روحي بمغادرة جسدي المثخن بالتعب والمرض، فقد استيقظت صبيحة الجمعة 23/10/1434هـ (30/8/2013) وشربت ماء فاترا، ثم وجدتني أخلد إلى نومة من نوع آخر، دون أن أكون محتاجاً هذه المرة إلى التوسل بأدوية النوم المهدئة التي أجبرني «الأرق العنيد» الذي أصابني منذ ما يقارب ربع قرن من الزمن على تناولها يومياً، فأنت تعلم أنه طيلة تلك الفترة لم أكن لأنعم بساعة نوم واحدة بدون تلك الأدوية التي فتّت كبدي بجانب أدوية الروماتيزم الحاد والسكر فضلاً عن المغص الذي يذهب ويجيء، وقد يمر علي يوم أو يومان أو ثلاثة أو أربعة وربما أكثر بلا نوم، ولذلك قلت لك قبل موتي بنحو أسبوع: (الحمد لله يا وليدي اللي الله ثبّت عقلي من قلة النوم.. الحمد لله والشكر).
نعم رحل حبيبي، أحد أهم أسباب وجودي وتعلمي في هذه الحياة... رحل أبي طاهر القلب واليد، رحل (عبدالرحمن بن جارالله علي حمود البريدي). كان الوالد «زقرتياً»، وكان رحمه الله أمياً لا يعرف حتى الأرقام فضلاً عن الحروف، ولكنه كان موحداً بعمق للخالق العظيم كسائر آبائنا، قائماً بأركان الإسلام ولله الحمد، وهو لا يحفظ إلا الفاتحة وبعض قصار السور، وبعض الأحاديث القليلة، وكثيراً ما كان يردد رحمه الله حديث (إن الله حرم الظلم على نفسه)، ويستعجب من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. أبي شأنه شأن بقية البشر لا يخلو من عيوب ونقائص، غير أن فيه خصلتين عظيمتين تستحقان التدوين لأخذ العبرة والعظة، وبخاصة أنها صادرة من إنسان صادق لا يعرف التصنع ولا التزين بما ليس عنده، وكان يكره التباهي ويمقت أهل الكبر والغرور، ويقول: (الكبر لله).
الخصلة الأولى كان أبي رحمه الله طيلة حياة يتحرز من المال الحرام، بل يتجنب كل ما فيه شبهة أو رائحة شبهة، بل رأيته يحتاط بالابتعاد عن كل ما ينافي ما يمكن تسميته بـ»المروءة المالية» أو «الفروسية المالية»، فهو لا يتصيد من المال إلا ما جاء من مصدر يحافظ فيه على أعلى درجات جودة العمل والبضاعة التي كان يقدمها. سأضرب لكم أمثلة. كان أبي قدس الله روحه يمتلك بنشراً يعمل فيه بيده الماهرة النقية مع مجموعة من العمال السودانيين والتايلنديين والنيباليين والهنود في مراحل مختلفة، وكان يجلب أفضل أنواع البضاعة التي كانت مكلفة جداً وسبباً في تخفيض هوامش أرباحه، مما يجعل بعض المحيطين به يقولون مثلاً له: (أبو عبدالله، ليتك تجيب - أي تجلب - البضاعة الرخيصة) وكان يرد بالرفض المطلق ويقول: (ما أبيع آخرتي بدنياي). بل إن البعض - مثلاً - كان يراوده على جلب البضاعة الجيدة المتوسطة، مثلاً: كان برميل الشحم ثلاثة أنواع (طيب ووسط ورديء)، وكان يُقال له: (أبو عبدالله، لا تجيب الطيب ولا الرديء.. جب الوسط، علشان تربح)، فيرد بالرفض الذي لا يترك مجالاً للحوار والإقناع مرة أخرى.
ومن باب تحرزه الشديد من كل ما فيه رائحة شبهة، أنه كان يمتنع من جلب أي بضاعة لا تتسم بالجودة، فمثلاً اذا نقطع النوع الممتاز من (رقع الإطارات) كان لا يجلبها ويعتذر من عملائه، على الرغم من أنه كان مقتنعاً بضرورة (تكميل المحل من البضاعة) كفلسفة تسويق وجلب الزبائن، إلا أنه غير مستعد أن يطبق مبادئ التجارة الدنيوية على حساب مبادئ التجارة الأخروية. تحوطه من أي شبهة أو رائحة شبهة في المال كان أمراً يدهشني، ولم أر له مثيلاً قط. ولم يكن ذلك في مجال جودة البضاعة، بل امتد ذلك إلى جودة العمل أيضاً، فقد كان شديد الحرص على عمله وما يقدمه من فحص للسيارات سواء قام بالعمل بنفسه أو عبر أحد العمال، وكان يغضب بشدة إذا وجد أي نوع من التقصير من العمال، ويهددهم بإلغاء التأشيرة وتسفيرهم، فهذا هو (مؤشره الأحمر)!!
ويدخل في هذا الباب، وفاؤه لديونه المستحقة عليه، فقد شهدتُ مرات عديدة حالة عده للنقود للوفاء بالمبالغ المستحقة للموردين في الوقت المحدد تماماً من غير إبطاء ولا تلكؤ ولا بخس لها. ذات ضحى مررتُ عليه في المحل ووجدته يعد نقوداً وكانت - على ما أذكر - 10007 ريال أو قريباً منها، فقلت له: (يبه.. عشرة آلاف ريال.. 7 ريالات ما تفرق مع المورد.. فنظر إلي ورفع رأسه، وقال: السبعة ريالات قبل العشرة آلاف يا وليدي، كل شيء يبي - أي يستوجب - حقه).
ولذلك كان (عبدالرحمن البريدي) يغتاظ حين يشتري هو بضاعة للمحل أو للبيت ويجد أن البائع قد غشه، ولم يكن رحمه الله يهتم بقيمة البضاعة، بل بالمبدأ الذي اغتاله مثل هذا الغش القذر، وكان في مثل هذه الحالات يأكله الاستغراب، ويقول بكل صدق وبساطة: (معقول مسلم يغش مسلم... ليه!).
وكثيراً ما كان يسمي المال بـ(وصخ دنيا)، وكان رحمه الله يحذرنا من هذه (الأوساخ)، وكان كثيراً ما يردد على مسامعنا: (تدرون يا عيالي ليش الله مصلحكم؟ لأني ما أدخلت عليكم مال حرام)، ثم يمرر يده اليمنى على جبينه ويمسح بإصبعه الذي يلي الإبهام على جبينه الطاهر من الشمال إلى اليمين قائلاً: (كله سلت عرق). أي أن المال الذي جلبه لنا كله طيب من كد طيب. رحمك الله أيها الطاهر النقي، وقبّح الله كل الفاسدين - أيا كانوا - الذين يلهثون وراء (وسخ الدنيا)، بائعين (قيمهم النظيفة) من أجل أن يعيشوا بقية أعمارهم مع (أموالهم القذرة)، أكرمكم الله. والكارثة أن بعضنا لا يعلم أو لا يعترف بأنه يفعل ذلك؟ مع توسع بعضهم في التبرير لالتهام الأموال الحرام أو المشبوهة، فالموظف الحكومي مثلاً قد يحضر اجتماعين ويعدهما في المكافأة ثلاثة أو أربعة أو أكثر، بحجة أنه بذل جهداً أكبر، وقد يجلب الموظف - كما يفعل بعض أساتذة الجامعات - عقد إيجار غير صحيح من أجل أن يحصل على بدل السكن مع أنه لا يحق له قانوناً، لامتلاكه بيتا، وهكذا لبقية التبريرات التي قد تجلب لنا قدراً يقل أو يكثر من (وسخ الدنيا).
الخصلة الثانية. أن أبي- رحمه الله- كان يؤمن بصدق مع تطبيق صارم بـ: (افعل الخير وارمه بالبحر)، فهو لا يتكلم عن أعمال الخير التي كان يفعلها، وقد علمت بعضها من مصادر أخرى وبعد أوقات طويلة، ووفاء مع والدي، فلن أذكر أمثلة عليها، فقد رماها هو في (بحر الخالق)، وما يكون لي أن أتجرأ على إظهار شيء منها إلى (يابسة المخلوق)، فعقده مع من يمتلك (التعميد) بالقبول والرضوان، لا مع البشر الذين لا يمتلكون حولاً ولا قوة!
والعجيب أنه لم يكن يتكلم عن أفعال الخير التي قام بها تجاه أناس تنكروا لحسن صنيعه معهم في بعض مراحل حياته، وهذه لعمري من «الفروسية الأخلاقية» النادرة التي لا يطيقها أكثرنا، فنكران الجميل يفرز حمضاً مراً في النفس، قد لا يدفعه عنها سوى البوح بما قدمه الإنسان، ربما لأن أبا عبدالله لم يكن قادراً على الغوص وجلب ما رماه هو بمحض إرادته في «بحر الله». ولذلك كله، أحببت «تدين» هؤلاء «العامة»، لا تدين من يظنون أو يزعمون بأنهم «خاصة»، نعم أحببت تدين هولاء البسطاء... عفواً العظماء!
حبيبي أبي... إن أولادك كلهم (عبدالله وهدى وهيلة ومحمد وتركي وسامي وفهد ومنال، وزوجتك البرة المخلصة منيرة بنت صالح العميريني) يحتسبون رحيلك إلى ربك، ويدعونه صادقين أن يتفضل بكرمه ولطفه بأن يجعل في ميزان حسناتك كل ما يقومون به من أعمال الخير والبر في سائر المجالات، فقد كنتَ سبباً في تعلمهم لها، مشجعاً على تعاطيهم لها، مع تحريضك الدائم لنا على طهارة القلب واليد، وحب الخير للناس، والاجتهاد في العمل، والوفاء بالكلمة والعهد.
أبي إني أحبك، أحبك، أحبك. أبا عبدالله... أنت لم ترحل... وكيف ترحل وقد استوطنت قلوبنا، ولتسعك رحمات الله التي وسعت كل شيء.
beraidi2@yahoo.com