هل تمكَّن الفلسطينيون على مدى ست وستين سنة مؤلمة من نكبتهم الكبرى من إيصال رسالتهم وصوتهم إلى القوى المعنية والقادرة على فرض حل أو تسوية تستجيب لحاجتهم ولمطالبهم المشروعة، وفي مقدمتها حقهم في العودة إلى قراهم ومدنهم وديارهم في وطنهم الأصلي فلسطين؟!..
أم ما زال العالم بحاجة إلى بيان أوضح من البيان الذي قدمه الشعب الفلسطيني على مدى سنوات التشرد واللجوء الست والستين المنصرمة التي قضاها في هذا المنفى الإجباري والقسري؟..
لن يكل الفلسطينيون جيلاً بعد جيل من المطالبة بهذا الحق (العودة) ليس لأن الشرعية الدولية قد كفلته لهم فقط، بل لأن المسألة بالنسبة لهم أبعد من أن تكون مسألة قانونية أو مسألة ظروف معيشية أو مادية يمكن التغلب عليها في أي مكان بعيداً عن الوطن أو في داخله، بل لأنها مسألة ارتباط تاريخي وجغرافي وعقائدي ومعنوي واجتماعي وسياسي وقانوني بوطنهم فلسطين، فأية جهود قاصرة عن إدراك هذا المعنى سوف يكون مصيرها الفشل في إنهاء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين أو طمسها.
لذا، فإن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تطرح إشكالية كبرى أمام الجهود الساعية لإقرار حل يعتمد مبدأ تقاسم فلسطين على أساس حل الدولتين، خصوصاً وأن الطرف الآخر يرى في العنصر الديمغرافي الفلسطيني المتواجد فيه حالياً داخل حدود كيانه الغاصب تهديداً لنقائه وبقائه في خريطة المنطقة، وذلك بسبب تركيبته العنصرية وأهدافه الاستعمارية الإحلالية، فكيف يمكن له أن يقبل بعودة اللاجئين الذين يربو عددهم على خمسة ملايين إنسان يحلمون بالعودة إلى موطنهم الأصلي؟!!..
إن ذلك يعني التقويض الكامل لمشروعه العنصري الإحلالي الوظيفي، لذا لا بد من تغيير لطبيعته، وهذا مستحيل حتى يتقبل فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين، لذلك إن إنهاء الصراع في فلسطين والمنطقة لا بد أن يتركز على أسس منهجية أساسية لا تقوم على منطق القوة، أو على شرعية القوة، بل تقوم على أساس من الشرعية التاريخية والاجتماعية، فالحقيقة التاريخية الاجتماعية ثابتة ولا تقبل التغيير، وإن احتملت إمكانية التغييب بفعل عوامل القوة المتغيرة فإنها سرعان ما تعود وتعبر عن نفسها في استعادة الذات لوعيها، الذي يمثّل فيه البعد التاريخي والاجتماعي والجغرافي أهم محدداته ومحركاته، فكيان الاغتصاب الصهيوني الذي يسعى جاهداً لتغييب حقائق التاريخ والجغرافيا والسكان، ويفرض واقعاً قائماً على أساس القوة الغاشمة، معتمداً على نظام دولي منحاز، ومهيمن عليه من قوى إمبريالية لها مصلحة في فرض واقع القوة الغاشمة، على الطرف الفلسطيني في سياق سياسة التوظيف التي يرتبط المشروع الصهيوني من خلالها مع القوى الإمبريالية المهيمنة، ستبقى هذه الأبعاد تقلقه وتفعل فعلها في محاصرته على طريق إزالته، وإن تفكيك العلاقة الوظيفية القائمة بين كيان الاغتصاب الصهيوني والإمبريالية هي وحدها الكفيلة بوضع المنطقة على طريق إيجاد الحل العادل والدائم للصراع في المنطقة، وممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في العودة وتقرير المصير، وذلك على أساس الحفاظ على الوحدة السياسية والجغرافية لإقليم فلسطين، عندها فقط تزول كافة العقبات من طريق تحقيق حلم العودة للفلسطينيين، وستنعم المنطقة على إثرها بالسلام الدائم والاستقرار السياسي والاجتماعي، وستحقق في هذا الكيان الفلسطيني المنشود كامل الشروط والظروف الموضوعية للمساواة بين كافة عناصره السكانية على اختلاف عقائدها وثقافاتها، على أساس من استعادة الحقيقة التاريخية والجغرافية لإقليملسطين كجزء لا يتجزأ من إقليم المنطقة وهويتها، التي ينتمي إليها وتنتهي دوامة العنف واللا استقرار التي عانت وستعاني منها المنطقة إلى أن يتحقق ذلك، لا شك أن هذا التصور يبدو للوهلة الأولى أنه بعيد المنال وضرب من ضروب الخيال السياسي في ظل ظروف موازين القوى المختلة حالياً لغير صالحه، واستشراس الهجمة الإمبريالية الاستعمارية على المنطقة، والتي لا تفهم إلا لغة القوة والأمر الواقع، وإن أخضع الفلسطينيون ومعهم العرب لمنطق القوة القائم الغاشم، والشرعية الدولية المنحازة للآخر وتم إنجاز الحل أو التسوية على أساس الدولتين، فإن مثل هكذا حل سوف يكون حلاً مرحلياً لا غير، ولا يمكن أن يكون نهائياً، لأنه لن يكون قادراً على استيعاب حل عقدة (حق العودة) الذي يزداد الفلسطينيون تمسكاً به وإصراراً عليه يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى، وما تطور الأطر والتشكيلات مثل لجان العودة إلا إحدى صور التعبير عن ذلك، فلا حل ولا تسوية دون تنفيذ حق العودة الذي أقرته الشرعية الدولية وقواعدها المنظمة لحقوق الإنسان في العيش بحرية وكرامة في وطنه، وهذا هو الدرس المستفاد من الذكرى السادسة والستين للنكبة والذي يجري التأكيد عليه دائماً وباستمرار.