أن تطبل لوطنك، وأن تُباهي به، و تفتخر بإنجازاته، وتزهو بماضيه، وباستقرار حاضره، وتُفاخر بمؤسسيه، وقياداته المعاصرة، فهذه المواقف في قواميس (المتأخونة) - أكرمكم الله - تُعَد تطبيلاً مذموماً؛ أما إذا كفّرت قياداته، أو ضللتهم، أو خوّنتهم، وشتمت، وانتقدت، وتذمّرت، وهيّجت العوام على استقرار الوطن وقيادة الوطن، ووقفت مع مناوئيه وأعدائه (بتخاذل وخِسة) في ذات الخندق، فأنت هنا نِعمَ الفارس الذي لا يُشق له غبار، ولا تُمس له مقولة.
غازي القصيبي - رحمه الله- الذي هو مَعلمٌ من معالم المواطنة والنقاء والتفاني والإخلاص والمواقف الوطنية الراسخة الجريئة التي تُسجّلُ له بماء من ذهب، كان قد وقف ضد صدام وضد من تحالف معه من بني يعرب القوميين، وكذلك المتأسلمين المُرائين، مواقف ما زلنا نتذكّرها، ونتذكّر فيها كيف يكون المواطن مع وطنه، وكيف يواجه أعداء بلاده في الأزمات بصلابة وصمود وصرامة وحزم، وفي المقابل وقف حينها من كان يُسمون (شباب الصحوة)، الذين هم الآن كهولاً مُفلسين، مع صدام، وضد استقدام القوات الأجنبية، ومع زعماء (الاخونج)، حينما أداروا لنا ظهر المجن، وتنكّروا لمن آووهم وحموهم؛ هؤلاء - أعني صحويي تسعينات القرن الماضي - في قواميس المتأخونة (أحرار شرفاء)، يصدحون بالحق، ويتماهون معه، ويُدافعون عنه؛ حتى يمكن القول بعلمية إنهم أعداء مناوئون وليسوا معارضين سياسيين للحكومة كما هم المعارضون في الدول الغربية أو الشرقية المتحضّرة؛ ولعل خير من يُمثّل هؤلاء الصحويين في تلك الحقبة بامتياز ولا يزال هو المنشق السعودي «سعد الفقيه»؛ فهذا الرجل، الذي يعيش في لندن، يُفترض أنه يعرف آداب المعارضة، وقيمها، ومن أين تبدأ، ولماذا تبدأ، وإلى أين تنتهي، احتفل وصفّق واحتفى- (بغباء) - عندما تناهت إلى أسماعه أخبار تفاقم (فيروس كورونا) في المملكة؛ ففي معاييره المختلة أن كل ما هزّ الأمن والاستقرار في بلادنا، سواء كان عدواً، أو مرضاً، أو زلزالاً، فهو يصب في مصلحته السياسية؛ فليس ثمة سبيلاً لتحقيق طموحاته السياسية إلا بتدمير البيت بمن فيه، أياً كانت الوسيلة، حتى وإن كانت الوسيلة وباءً أو إعصاراً أو عدواً يتربّص بأمنه واستقراره.
أما في الغرب وكذلك الشرق، المتفوّق والواعي حضارياً، فالحكومة والمعارضة تختلفان وتتصارعان وينقد بعضهم بعضاً، وبشراسة أحياناً، ولكن هناك قيماً وحدوداً للمعارضة والنقد والاختلاف لا يمكن أن يتجاوزها لا هؤلاء ولا هؤلاء بحال، وهي (مصلحة الوطن العليا)؛ فعندما يمر الوطن - مثلاً - بعارض طارئ، أو أزمة دبلوماسية مع الخارج، أو حرباً، أو كارثة، أو وباء، تجدهم يصطفون صفاً واحداً كأنهم البنيان المرصوص، حرباً على من حاربهم (جميعا)، وسلماً على من سالمهم جميعا، لا فرق بين مواقف هؤلاء ومواقف أولئك.
ومن يقرأ ثقافة بني يعرب السياسية المعاصرة، وبخاصة اليساريون منهم، يجد أن لا قيمة أصلاً للوطن المعاصر في ثقافتهم؛ فالأوطان في قياساتهم (مُختلقة)، أو مُصطنعة، يجب ألا يكون لها أي اعتبار؛ فالوطن عند القوميين مجرد (قُطْر) أو إقليم، وكيانٌ طارئ مفبرك وليس دائماً، لا بد أن تشرئبَ أعناق (الأحرار الشرفاء) من بنيه إلى إنهائه وتذويبه في (دولة الوحدة العربية) العظيمة التي ستأتي يوماً ما وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وبالتالي فكل من يقف ضد ثقافة دولة الوحدة، ويتمسك بالوطن، واستقلال الوطن، وقيادة الوطن، فهو خائن وأجير، أو عميل للأجانب، و(مُصفق) لمن نصبوه الأجانب ليتولى السلطة في هذه الكيانات المختلقة. وما ينسحب على القوميين في احتقارهم للوطن والمواطنة ومكوناته ينطبق على المتأسلمين، ولكن هؤلاء يختلفون عن أولئك في أن الهدف، أو الحلم، هو تذويب الوطن في دولة الأمة الإسلامية، أو (دولة الخلافة)؛ وكل من وقف في سبيل هؤلاء القوميين أو المتأسلمين، ونَصَرَ منظومة الوطن وسيادته، وأنه (كيان) نهائي لا يزيد ولا ينقص، وتعامل مع مكوناته وقيمه ورموزه باحترام، فهو في قواميسهم (مُطبل) ليس إلا.. ولأننا مررنا خلال العقود القليلة الماضية بحقبتين الأولى حقبة القوميين والثانية حقبة المتأسلمين، وكلتاهما تتفقان على إسقاط الأوطان، تدنّت الثقافة الوطنية في بلادنا إلى الحضيض.
لذلك أقول لهؤلاء وأولئك: نعم أنا مُطبل للوطن ولقادة الوطن ولقيم الوطنية والمواطنة، واشربوا من ماء البحر.
إلى اللقاء.