منذ اللحظة الأولى لوصولك مطار برج العرب بالإسكندرية فإن نسمات المتوسط تباغتك، تداعب ذاكرتك إن كانت مرفأك قبل ذلك، أو تستنهض ذاكرتك المستعارة من بطون كتب التاريخ الإلزامي أو الاختياري، أو ربما عبر الأفلام المصرية لمبدعين إن ذكرت مصر حضروا، وإن ترحمنا على الزمن الجميل فقد أتوا به.
أسأل المضيف في الرحلة المصرية لأطمئن على رحلتي بعد يومين العائدة إلى الرياض عن طريق القاهرة فيجيب أن الرحلة الداخلية منذ سنوات طويلة لم تتغير فهي بعد الفجر بقليل (اطمئني يا هانم الطائرة بتبيت في الإسكندرية عشان كدا الرحلة في موعدها، مش حتفوتك رحلة القاهرة الرياض)، بتلك اللهجة المصرية التي نحفظها عن ظهر قلب يجيب المضيف.
رغم الطرق غير المعبدة والطريق ذي الاتجاهين، وقيادة البعض متجاهلين فن القيادة إلا أنك تشعر بنكهة هذه الديار التي ألفتها وبطيبة أهلها وعفويتهم المتناهية، يسعدك رؤية رجل الأمن بثيابه الناصعة البياض، يعيدك لأفلام رشدي أباظة وشادية وفؤاد المهندس، ورؤية المتوسط يرشق المارة والمقاهي المرصوفة على المرافئ بموجه الذي لا يهدأ في سيمفونية عشق مع البر الذي يقبله كلما تناثرت قطرات الماء عليه.
آه لزرقة المتوسط التي تتكحل عينيك بلونها السرمدي وبامتداده نحو الأفق الذي إن حدقت به فإنه يذهب بك إلى كل تلك المدن التي ابتلعها البحر فرقدت تحت الماء أطلال مدينة الإسكندرية الأسطورية. التي جعلت من هذه المدينة المتحفية أسطورة حضارية وأثرية، ولغزا دفينا في أعماق البحر.
القائد الأسطورة جمال عبدالناصر من مواليد الإسكندرية أيضاً تلك التي تمتلئ أرصفتها بصور ولوحات انتخابية لقائد مماثل أعاد الاعتبار لجيشها وشعبها (المشير السيسي).
مكتبة الإسكندرية تعيدنا لعهد المقدوني المولد «بطليموس» والذي حكمت أسرته مصر، وقد شهد ميلاد المدينة الجديدة التي أرادها أن تصبح عاصمة ثقافية وفكرية للعالم أجمع.
وفي عهد بطليموس الثاني أقيمت المكتبة الشهيرة وجمعت كل الكتب من اليونان وسورية وبابل وبلاد فارس والهند.. والتي اشتراها بماله الخاص، كذلك شرع في ترجمة التوراة إلى اليونانية.
في مكتبة الإسكندرية كان الاحتفاء بشعراء معجم البابطين في نسخته الثالثة، وبحضور محافظ الإسكندرية الذي أطلق على الشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين صاحب المؤسسة الشعرية أن هذا الرجل منفردا هو وزارة ثقافة عربية معنية بخدمة الثقافة العربية وبتوطيد الحوار في العالم.
حين اعتليت منبر المكتبة تراءى لي الاسكندر ونيفرتيتي وكل من شابهتهم المجسمات التي تقف بشموخ في مصافحة مع تاريخ مضى وحاضر يتوق لاستحضاره.
حين تخرج من المكتبة تبقى رائحة الأوراق في الشارع المزدحم حولها والمكتبات المتلاصقة تدعوك لاحتساء تاريخ بهي بين طياتها وكتب لا يمكن لك أن تلقاها مجتمعة إلا في هذا المكان العريق بالمدينة الأسطورة.
البحر قبالتك تماماً بعد الشارع المزدحم والرصيف المكتظ بالبشر المارقين من الحياة إلى صخبها مشكلين هذه التشكيلة التي تميز مصر بمدنها العريقة.
تسمع البوق المكبر للصوت في سيارات الإسعاف حيث يصرخ سائقها يطلب من السيارات إفساح الطريق له،
وعربات الخبز بالسمسم في الصباح الباكر ما أكثرها في الزقاق وعلى الأرصفة، أكشاك الجرائد التي يرق ورقها لكنها تحتشد بمواضيع أدبية عميقة، وسرعان ما يعلق حبرها بأناملك، سيارات الأجرة بالأصفر والأسود، والكادحين في الحياة المنتشرين إلى أعمالهم المختلفة، والشباب .. الفئة الأكبر في مصر والمعوّل عليهم في النهوض بالبلاد، والخروج من المآزق التي مرت بها، المعلقة الآمال عليهم أن يبدلوا كل السلوكيات الخاطئة التي سادت زمنا، وكل ما يمكن أن يشوه الوجه الحضاري للبلد العريق العظيم.
شباب مصر يستعيدون رموزها في شخوصهم وسلوكهم وآمالهم وأفكارهم، فهم صانعو الثورة وهم مستقبل البلاد إن أحسنوا التدبير.
مصر التي تعود منها يرافقك في الحقيبة الصغيرة « أولاد حارتنا» زوجة أحمد» وزقاق المدق» وما خفّ أو ثقل حمله، تعود وفي أنفاسك البحر، وفي عينيك زرقة المتوسط وشذى الذاهبين إلى البحر ولم يعودوا.
من أول البحر
صوتها دافئ كنبع ماء
يترقرق حاملا أصداء الغابات
وحشرجة النهر
صوتها تراتيل فرح مشتهى
وأنغام حزن.. يشرق به صمتها