هي مجلة ذات سمات خاصة تحتضنها، وتحدد معالمها، لتبقى وعاءً دائم العطاء في رحاب الفكر والثقافة؛ أولى السمات: أنها تحمل اسم هامة شامخة برصانة فكرها وأصالة مبادئها، وخالدة بحجم تاريخها وعمق بصماتها؛ إنها شخصية «الفيصل» وكفى بهذا الاسم تفصيلاً. وثانيتها: إنها الإصدار الأول لـ»دار الفيصل الثقافية» التي أنشأها في عام 1397هـ- 1977م كشاجم هذا العصر؛ «خالد الفيصل»، بغرض إصدار مطبوعات ثقافية من شأنها أن تخاطب المثقفين. وثالثتها: أنها بعد أن ترعرعت بين يدي «خالد الفيصل» وأمام ناظريه، انتقلت في مطلع عام 1412هـ إهداءً نفيساً منه لمعلم بحثي له مكانته العالية، ليس محلياً فقط، إنما أيضاً إقليمياً وعالمياً، إنه «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» ـ أحد قطاعات «مؤسسة الملك فيصل الخيرية» ـ الذي احتضن هذا الإهداء المبارك، وواصل العمل نحو تحقيق أهدافه، فأضاف إلى هذه المجلة مجلتين أخريين أخذتا مكانهما اللائق بهما لدى المثقف العربي، وهما «مجلة الفيصل العلمية» و»مجلة الفيصل الأدبية»، بالإضافة إلى إصدار عدد كبير من الكتب المنتقاة بعناية، وكان لي شرف توليها إصدار الجزء الأول من كتابي الموسوم «ومضات وجد» عام 1430هـ - 2009م.
تلك المجلة التي أسعد وإياك قارئي الكريم بهذه الجلسة الثرية في رحابها، هي «مجلة الفيصل الثقافية»، التي تكمل في يونية المقبل عامها السابع والثلاثين؛ إذ صدر عددها الأول في رجب 1397هـ؛ يونية - حزيران 1977م، وتوزع في مختلف أنحاء العالم تقريبًا. وتعاقب على رئاسة تحريرها خلال هذه المدة ذوو فكر ونبض وقلم، هم على التوالي: الأستاذ علوي الصافي، فمعالي الدكتور زيد بن عبدالمحسن الحسين، ثم الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، فرئيس تحريرها الحالي الأستاذ عبدالله يوسف الكويليت.
وهي مجلة ثقافية شهرية، زاخرة بأقلاميين أكفياء، وموضوعات ثقافية متنوعة الاتجاه وعميقة الأثر، ومتطورة الإخراج، وآخر تطوير شهدته المجلة كان من نصيب هذا المجلد إذ صدر بمقاس 30×23سم لتتواءم صفحاته مع ما تحرص عليه المجلة من شمولية توثيق المعلومة بالكلمة والصورة.
ومن السمات التي امتاز بها هذا المجلد أنه صدر بالتزامن مع أحداث مشهد ينعش الفكر ويلهب المشاعر، ويبعث في النفس الاعتزاز؛ ذلك أنه عالمي الطابع، وسعودي الإنجاز، إنه الاحتفال المهيب الذي أقامته «مؤسسة الملك فيصل الخيرية» في 29-5-1435هـ الموافق 30 مارس - آذار 2014م بمنح علماء الإنسانية «جائزة الملك فيصل العالمية» في فروعها الخمسة؛ «خدمة الإسلام»، و»الدراسات الإسلامية»، و»اللغة العربية والأدب»، و»الطب»، و»العلوم»، تكريماً لهم نظير ما بذلوه من وقت وجهد، وما حققوه للبشرية من خير. والذي دشنه «خالد الفيصل» بهمسة صارخة قال فيها:
فِي الْأَجْوَاءِ عَوَاصِفُ وَتَقَلُّبَاتٌ وَاضْطِرَابَاتْ
وَفِي الْأرْجَاءِ زَلَازِلُ وَبَرَاكِينُ وَفَيَضَانَاتْ
وَفِي الْمَرَاكِزِ بُحُوثٌ وَدِرَاسَاتْ، لِإِنْتَاجِ دَمَارٍ وَفَوضَى وَانْقِسَامَاتْ
**
وَعَالَمٌ تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ بِلَا شُطْآنْ
وَضَبَابِيَّةٌ حَالَتْ دُونَ فَهْمِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانْ
**
وَلَكِنْ
فِي الْأُفُقِ لَمْ يَزَلْ
بَصِيصٌ مِنْ أَمَلْ
فِي وَمِيضٍ مِنْ عَمَلْ
يَقْدَحُ وَإِنْ عَلَى خَجَلْ
**
إِنَّهُ بَقَايَا خَيْرٍ فِي الْبَشَرْ
ظَاهِرٌ لَا مَحَالَةَ مَهْمَا اسْتَتَرْ
**
يَخْدِمُ الْعِلْمَ وَالسَّلَامْ، لِيَنْعَمَ بِالْحَيَاةِ الْأَنَامْ
كَيْفَ لَا وَفِي الدُّنْيَا أَمْثَالُكُمْ أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ النُّجَبَاءُ النُّبَلَاءْ
**
الشُّكْرُ لِلرَّاعِي الْأَمِينْ
وَالتَّهْنِئَةُ لِلْفَائِزِينْ
وَتَحِيَّةٌ لِلْحَاضِرِينْ
وَبِاللهِ نَسْتَعِينْ
ويضم هذا المجلد بين غلافيه مواد عددَي ربيعَي عام 1435م؛ يناير وفبراير 2014م، أما الغلاف الأمامي فخصص للوحة معبرة لموضوع تحت عنوان «النرجسيون والمكتئبون» من إعداد (خالد عبدالله الخميس)، ومن خطوطه العريضة عبارة تقول: «مع أن خصائص النرجسي تضاد خصائص المكتئب إلا أن هاتين الشخصيتين تتوافقان معاً؛ فالمناقض التي عند الأول نجدها في الثاني، والعكس كذلك». وعبارة أخرى تقول: «النرجسي لا يأبه بفقد صديق، ولا يعيد مراجعة أخطائه مع الآخرين، بل يستحيل عليه أن يلوم نفسه أو ينتقدها، أو على الأقل أن يعترف بجزء يسير من خطئه؛ فأي مشكلة تحدث حوله يوجه أصابع اللوم تجاه الآخرين من دون أن يفكر في نقد نفسه».
وأما الموضوعات الأخرى التي يتضمنها هذا المجلد، فقد تصدرتها زاوية «العالم في شهر»؛ إعداد هيئة التحرير، واشتملت على العناوين الآتية: «إعلان أسماء الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية في الدورة 36»؛ حيث تم تسليط الضوء على العلماء الذين استحقوا بإنجازاتهم نيل الجائزة. و»شاهد وشهيد»؛ وهمس يطيب له الوجدان عن مسيرة الملك فيصل الحاشدة في خدمة وطنه وأمته. و»انطلاق معرض؛ الرياض الدولي للكتاب»؛ ويشير إلى الآثار الإيجابية للتظاهرة الثقافية الدولية التي تم تنظيمها في مدينة الرياض. و»إحداثيات جدة»؛ وحالة خاصة لمبادرة فنية يقوم على تنفيذها المجلس الفني السعودي في مدينة جدة. و»طالبة سعودية تحرز المركز الثالث في الرياضيات الذهنية»؛ واسمها: هيا بنت عبدالله آل حسين. و»حجب 41 صحيفة إلكترونية ووصفها بالأشباح»؛ وهذه تسجل بخيوط من نور لوزارة الثقافة والإعلام السعودية. و»انطلاقة المهرجان الوطني للتراث والثقافة الجنادرية 39»؛ وهي بمثابة عرس تراثي سعودي سنوي تعد له وتنظمه وزارة الحرس الوطني، ويترقبه مثقفو الإنسانية من عام إلى عام. و»علاج الكسور بتقنية جديدة في مستشفى بلجيكي»، و»إطلاق أكبر تلسكوب فضائي في العالم عام 2018م»، و»فنان سوري يجسد صدمة الحرب في لوحات بالفحم»، و»حفيدة طه حسين تنشر كتبه في الإنترنت»، و»مشاركة سعودية في معرض الفنون التشكيلية بالغردقة»، و»القصيم تحتفي بشجرة الغضا في مهرجان خاص»، و»وفاة الشاعر اللبناني جوزيف حرب»، و»إنجاز صحي هندي يقضي على شلل الأطفال».
ثم يلي ذلك زاوية «طبيعة»؛ أعدها (ناصر أحمد سنة؛ من مصر)، وجاءت تحت عنوان «الزعفران وما من غلائه بد»، ومن محطاتها العريضة عبارة تقول: «نصح ابن البيطار باستخدام الزعفران مع البيض لعلاج البواسير، ورطوبات العين، وتقوية لون البشرة وتحسينه»، وعبارة أخرى تقول: «ثبت للعلماء أن الزعفران مادة مفرحة، ويعطي انسجاماً نفسياً، ويمنع اعتلال المزاج والكآبة ويبعد الشعور بالمخاوف، كما يعد مادة منومة ومهدئة».
ثم زاوية «أعلام»؛ أعدها (صلاح بيصار؛ من مصر)، وعنوانها «أوجين ديلاكروا .. أيقونة الرومانسية»، ومن أبرز محطاتها عبارة تقول: «اعتمد الفن الرومانتيكي من البداية على المبالغة في تصوير المشاهد التراجيدية أو الدرامية؛ فالألوان أزهى عادة من الواقع، والحركات أشد عنفاً»، وعبارة أخرى تقول: «جاءت لوحة ديلاكروا (الحرية تقود الشعوب)، الموجودة في متحف اللوفر، قمة عمله بوصفه فناناً رومانسياً رأى في التصوير حريته ممثلة في تلك اللوحة».
ثم زاوية «فنون»؛ أعدها (عبدالعظيم محمد الضامن؛ من السعودية)، وعنوانها «المنمنمات .. إبداع يتميز بالطرافة والدقة»، ومن أبرز محطاتها عبارة تقول: «فن المنمنمات هو تزيين المخطوطات والكتب التاريخية والعلمية ببعض الصور التوضيحية. وتتصف مفردة (منمنمة) بسعة دلالتها؛ فهي تعني الإنتاج الفني الصغير الأبعاد، الذي يتميز بدقة الرسم والتلوين، ويطلق عادة على الأعمال الملونة، وغيرها من الوثائق المكتوبة، المزينة بالصور، أو الخط، أو الهوامش المزخرفة على الخشب، والعاج، والعظام، والجلود، والكرتون، والورق، والمعدن، وغير ذلك من المواد».
ثم زاوية «أدب»؛ أعدها (محسن بن حمد الخرابة؛ من هيئة التحرير)، وعنوانها «مختوم قولي.. شاعر الشعب التركماني»، ومن أبرز محطاتها عبارة تقول: «أهم غرض شعري طرقه الشاعر هو حبه بلاد التركمان، وحبه التركمان؛ فقد كان يتمنى أن تتوحد القبائل التركمانية، ويصبحوا شعباً واحداً»، وعبارة أخرى تقول: «يلاحظ في ديوان الشاعر تأثره الشديد بمعاني القرآن، وذكره الرموز القرآنية؛ كالأنبياء».
ثم زاوية «تراث»؛ أعدها (أبوبكر خالد سعدالله؛ من الجزائر)، وعنوانها «ألعاب الخفة في التراث العربي». ثم زاوية «نوافذ»، أعدها (ضياء يوسف؛ من السعودية)، وشملها بعدة عناوين مهمة؛ «شرارة بيكاسو المشرقة.. إبداع مصوّر وعبقرية فنان»، و»آرنست هيمونجواي .. التفاعل والانسجام مع ازدهار عصر السينما»، و»لويز بورجوا .. العشق الأموي للعنكبوت والفن، ذاكرة لا تنطفئ إلا بالموت»، وداميان هيرست في جدة؛ محور ثنائية الموت والاكتئاب مقابل الحياة والفرح»، و»في دار الحكمة بجدة؛ إبراز الفن العالمي المعاصر وشبكاته»، و»الحياة جميلة؛ سكاكين مطبخ الفنان الإيراني فرهاد موشيري».
ثم زاوية «استطلاع»؛ أعدها (تركي بن إبراهيم الفهيدان؛ من السعودية)، وموضوعها «أشيقر؛ مدينة العلم والعلماء»، ومن أبرز محطاتها عبارة تقول: «تقع أشيقر في منخفض زراعي متسع، ويحيط بها تلال منعزلة من الكويستا، وأصل هذه الكلمة إسباني، وتعني: جبل مختلف الانحدار»، وعبارة أخرى تقول: «وادي الهَوْبَجَة من أهم الأمكنة السياحية في المنطقة أثناء جريانه، ويكشف عن جمال الأرض عندما تهطل عليها الأمطار بعد تحوّلها من الجفاف إلى الخضرة».
ثم زاوية «ملهمون»؛ أعدها (حسين حسن حسين؛ من هيئة التحرير)، وعنوانها «الشيخ عبدالرحمن السميط؛ طاقة خير أضاءت مجاهل إفريقية». ثم زاوية «تاريخ»؛ من إعداد (نورهان علي صالح؛ من السعودية)، تحت عنوان «أنوار الحكمة؛ تاريخ التعليم في العصور الوسطى».
ولم يغفل المجلد جماليات السرد الأدبي والنظم الشعري، ففي المجال القصصي نقرأ «ملاذ» للقاص (عبدالكريم بن محمد النملة)، وفي المجال الشعري نلتقي مع «حائل» للشاعر (محمد جبر الحربي)، و»خط استواء» للشاعر (هشام فتحي)، وخاطرة تحت عنوان «كحبي أحبك» للناثرة (دينا الشهوان) وجميعهم من السعودية، بالإضافة إلى قراءة متأنية ووافية في كتاب الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي، الموسوم «المرأة في نجد؛ وضعها ودورها»، وقد أعدها (سيد الجعفري؛ من هيئة التحرير)، واختار عنواناً لها «عندما تحتفي الثقافة السعودية بالمرأة النجدية».
كما لم يغفل المجلد عنصر نقل المعرفة وتبادل الثقافات، وفي هذا الإطار احتضنت زاوية «حوار» ترجمة (محجوب عباس؛ من السعودية)، للحوار الذي أجرته باريس ريفيو مع الشاعر والناقد الأدبي والمترجم «إيف بونفوا؛ بريتون أهم صوت شعري في القرن العشرين»، وهو أحد رواد الشعر في فرنسا في القرن العشرين. وترجمة أخرى لقصةٍ تحت عنوان «آهٍ من ذوي القربى»، للمترجم (هاشم حمادي؛ من سورية).
وأختم مع خاتمة المجلد تحت عنوان «تفاصيل» لرئيس التحرير، وأقتبس إحداها «الاتزان هو الغضب بأقصى درجات الأناقة في نظر الآخرين»، وأخرى «الورود وحدها التي تشبه القبلات وتزاحمها»، وثالثة وهي كثيرة «السقوط الأخلاقي لا جبيرة له».
كانت تلك ـ قارئي الكريم ـ محطات عابرة، في مجلة زواياها ماطرة، وتبقى التحية لك ولها قاصرة.