قليلون جداً أولئك الذين حفروا أسماءهم على جدار الزمن، فعشق الزمن إيمانهم وصبرهم وكفاحهم، وراح يتنقل ببصماتهم من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، ولما كان الجزاء من جنس العمل، ما انفكت الأجيال تمعن في التفاعل مع سيرهم ومشوار عطاءاتهم؛ تتحسس معاناتهم، وتتعايش مع أنفاسهم، وتجدد لهم العهد على الوفاء لتضحياتهم، والوعد بمواصلة الخطى للمضي قدماً نحو تحقيق الآمال.
وأجدني هنا أقف احتراماً وإجلالاً لكوكبة مضيئة من هؤلاء القلة، بعضهم واراه الثرى منذ عقود من الزمن، إلا أن بصماتهم مازالت تحيا بيننا وفي نفوسنا، وبعض آخر لم يزل يعطي وينتظر.
لقد غمرتني السعادة منذ بضعة أيام، حينما أرسل إلي أخ ـ ليس فقط لم تلده أمي، إنما أيضاً لم أره قط، إنه رفيق درب الحروف، وشقيق متاهات الفكر، وتوأم ناصية الوفاء؛ ابن لبنان العروبة والحضارة الأديب الفذ إبراهيم يوسف ـ همسة حب، ونبض حقيقة، وومضة صدق، وهي عبارة عن بحث مشرف أجرته جريدة السفير اللبنانية بقيادة رئيس تحريرها الإعلامي الأستاذ طلال سلمان، تحت عنوان: «الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط».
يشير البحث إلى حجم الدور الذي لعبه الفلسطينيون ـ وما زالوا ـ في الكثير من مناحي الحياة، ويشرفني أن أقتبس هنا بشيء من التصرف بعضاً مما تضمنه البحث.
يقول البحث: «لا يتخيل الكثير حجم الدور الذي لعبه الفلسطينيون وما زالوا يلعبونه حتى اليوم في اقتصاد لبنان، وذلك على الرغم مما يمارس عليه من تعتيم شديد؛ فالفلسطيني في لبنان ان كان مخطئاً فهي فضيحة وعليها شهود، وإن كان منجزاً فالتكتم عليه واجب محتم.
هذه هي الحقيقة، فهل تعلم أن فلسطينيي لبنان في الإمارات يحولون سنوياً إلي لبنان ـ بحسب جريدة الخليج ـ 368 مليون دولار، وهل تعلم أن خريجي الجامعة الأمريكية في لبنان من الفلسطينيين إما يساوون أو يزيدون عن اللبنانيين. وحينما تدخل الجامعة، تجد في أحد الأركان «قاعة طلال أبو غزالة»، وفي ركن آخر «قاعة حسيب صباغ»، وفي ثالث «قاعة كمال الشاعر»؛ وجميعهم فلسطينيون ساهموا في بناء الجامعة وتطويرها بتبرعات خاصة منهم.
وإليكم بعض الأسماء التي تنحدر من أصل فلسطيني في لبنان، ولعبت دوراً كبيراً فيه، وأكرر هناك تعتيم كبير على ذلك، وإن ظهر هؤلاء فيظهرون على اعتبار أنهم لبنانيون، والمتأمل يدرك أن الازدهار اللبناني لم يبدأ إلا بعد نكبة فلسطين سنة 1948م؛ فقبل تلك الحقبة، وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، كان لبنان مجرد مجموعة من القرى المتناثرة في الجبل تتميز بهواء صحي ملائم للمصطافين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين، لكن بعد بسقوط فلسطين سنة 1948م، حمل اللاجئون الفلسطينيون معهم إلى لبنان دفعة واحدة نحو 15 مليون جنيه إسترليني، أي ما يقارب 24 مليار دولار بأسعار هذه الأيام، وهذا الأمر أطلق فورة اقتصادية شديدة الإيجابية، فاليد العاملة الفلسطينية المدربة أسهمت في العمران وفي تطوير السهول الساحلية اللبنانية، والرأسمال النقدي أشاع حالة من الانتعاش الاستثماري الواسع، وكان لإقفال ميناء حيفا، ومطار اللد شأن مهم جداً في تحويل التجارة من شرق المتوسط إلى ميناء بيروت، وفي إنشاء مطار بيروت الدولي بعدما كان مطار بئر حسن مجرد محطة متواضعة لاستقبال الطائرات الصغيرة.
وفي هذا السياق لمع في لبنان الكثير من الفلسطينيين الذين كان لهم شأن كبير في الازدهار اللبناني أمثال؛ «يوسف بيدس»؛ مؤسس بنك انترا وكازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط واستديو بعلبك، و«حسيب الصباغ» و«سعيد خوري» مؤسسا شركة اتحاد المقاولين، و»رفعت النمر» مؤسس البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة وفيرست بنك إنترناشونال، و«باسم فارس» و«بدر الفاهوم» مؤسسا الشركة العربية للتأمين، و«زهير العلمي» مؤسس شركة خطيب وعلمي، و«كمال الشاعر» وله دار الهندسة، و«ريمون عودة» مؤسس بنك عودة، و«وفيق غرغور» صاحب توكيل مرسيدس وشركة ليسيكو ومشروعات تجارية أخري كبيرة، كما أن أول شركة لتوزيع الصحف والمطبوعات في لبنان أسسها فلسطيني وهي «شركة فرج الله»، وأول سلسلة محلات لتجارة الألبسة الجاهزة هي (محلات عطا الله فريج) الفلسطيني، وأول الذين أسسوا محلات السوبر ماركت في بيروت هو السيد أودين أبيلا الفلسطيني وهو ذاته صاحب سلسلة المطاعم الشهيرة في مطار بيروت الدولي وكازينو لبنان، وأول من أسس شركة لتدقيق الحسابات في لبنان هو فؤاد سابا وشريكه كريم خوري الفلسطينيان، وأول من بادر إلى إنشاء مباني الشقق المفروشة في لبنان هما الفرد سبتي وتيوفيل بوتاحي الفلسطينيان، علاوة على «عبد المحسن القطان» و«محمود فستق» وغيرهم الكثير.
واشتهرت، في البدايات الأولى بعد النكبة، بعض العائلات الفلسطينية التي كان لها شأن بارز في تطوير بساتين الجنوب مثل آل عطايا. كما كان لليد العاملة الفلسطينية حضور في معامل جبر وغندور وعسيلي واليمني.
ومن بين أساتذة الجامعات الفلسطينيين هناك «نقولا زيادة»، و«برهان الدجاني»، و»نبيه أمين فارس»، و«صلاح الدباغ»، و»نبيل الدجاني»، و«يوسف الشبل»، و«جين مقدسي»، و«ريتا عوض» و«فكتور سحاب»، و«يسرى جوهرية عرنيطة»، و«رجا طنوس»، و«سمير صيقلي»، و«محمود زايد»، و«عصام مياسي»، و«عصام عاشور»، و»طريف الخالدي».
وبرز من بين الفنانين التشكيليين «جوليانا سيرافيم»، و«بول غيراغوسيان»، ورسام الكاريكاتور العالمي «ناجي العلي»، و«إبراهيم غنام»، و«توفيق عبد العال»، و«مليحة أفنان»، و«إسماعيل شموط»، و«محمد الشاعر»، و«كميل حوا».
وفي الصحافة ظهرت كوكبة من الفلسطينيين في لبنان كان لها شأن وأثر، أمثال: «غسان كنفاني»، و«نبيل خوري»، و«نايف شبلاق»، و«توفيق صايغ»، و«كنعان أبو خضرا»، و«جهاد الخازن»، و«نجيب عزام»، و«إليأس نعواس»، و«سمير صنبر»، و«إليأس صنبر»، و«إليأس سحاب»، و«خازن عبود»، و«محمد العدناني»، و«زهدي جار الله». ومن رواد العمل الإذاعي «كامل قسطندي»، و«غانم الدجاني»، و«صبحي أبو لغد»، و«ناهدة فضلي الدجاني»، و«عبد المجيد أبو لبن»، و«شريف العلمي»، و«رشاد البيبي»، ومن رواد الفرق المسرحية والعمل الإذاعي أيضاً «الأستاذ صبري الشريف» الذي كان له الفضل الكبير على الأخوين رحباني وعلى مهرجانات بعلبك.
وأول من وصل إلى القطب الجنوبي في بعثة علمية، ورفع العلم اللبناني هناك، هو الفلسطيني اللاجئ إلى لبنان «جورج دوماني».
ومن رواد العمل السياحي في لبنان «سامي كركبي»؛ الفلسطيني الذي كان أول من جعل مغارة جعيتا على مثل هذا البهاء، وأول من قاد طائرة جمبو في شركة طيران الشرق الأوسط MEA هو «حنا حوا» الفلسطيني، ومن أوائل مؤسسي مراكز البحث العلمي في بيروت الفلسطيني «وليد الخالدي». وفي مجال النقد الأدبي اشتهر «الدكتور محمد يوسف نجم»، و«الدكتور إحسان عباس»، ومن رواد علم الآثار الحديث في الجامعات اللبنانية الفلسطيني «ديمتري برامكي» مدير متحف الجامعة الأمريكية، ومن رواد تدريس الرياضيات في لبنان كل من «جميل علي، و»سالم خميس»، و»عبد الملك الناشف»، و»وصفي حجاب»، وكان «أحمد شفيق الخطيب»، و«قسطنطين تيودوري» رائدي العمل القاموسي، و«سعيد الصباغ» أول من تخصص في رسم الخرائط، وأول من أطلق فكرة تأسيس مدارس تعليم اللغة الإنجليزية كان الفلسطينيان «إميل أغابي»، و«إدي جمل، وأول رئيس عربي مقيم للجامعة الأمريكية هو الفلسطيني «الدكتور إبراهيم السلطي». واشتهر في التربية «قيصر حداد»، و«صادق عمر»، و«جورج شهلا». ومن رواد الموسيقى في لبنان، الفلسطينيون «فريد، وحنا، وريشارد، السلفيتي»، و«حليم الرومي»، وابنته «ماجدة الرومي»، و«رياض البندك»، ثم «سليم سحاب»، و«عبد الكريم قزموز»، وعبود عبد العال»، و«محمد غازي». وأول فرقة للرقص الشعبي أسسها الفلسطينيان «مروان جرار» و«وديعة حداد جرار»، وأول من أسس الفرق الكورالية الموسيقية الفلسطينيان «الفاريس بولس»، و«سلفادور عرنيطة».
وهنا ينتهي الاقتباس من بحث جريدة السفير اللبناني، لكن هذا حرك آخرين؛ إذ غمرتني السعادة من جديد حينما وجدت الأديبة المتألقة القاصة أسماء مبارك، تتفاعل مع هذا البحث مقدمة بحثاً مشرفاً آخر قامت عليه وقدمته لنا نحن الفلسطينيين على طبق من ضياء، ووضعته تحت عنوان: «الفلسطينيون ليسوا فقط جوهرة الشرق الأوسط، إنما أيضاً درة الخليج العربي»، ويسرني أن أضعه هنا حرفياً كما خطه قلمها النابض، قالت: «إذا كان الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط ـ كما جاء في البحث الرائع الذي أعدته جريدة السفير اللبنانية ـ، فأضيف أنهم أيضاً درة الخليج العربي، واليد التي أسهمت في بناء نهضته على كل الأصعدة.
لقد كان وما زال للقامة الفلسطينية دور عظيم ومهم في تقدم الدول العربية وازدهارها، ومن بينها وطني الحبيب - الكويت -؛ إذ شكل الفلسطينيون جزءاً مهماً من تاريخ نهضة الكويت؛ فهم أول من أسهم في النهضة التعليمية، حيث استقدمت الكويت نخبة مختارة من المعلمين الفلسطينيين، وهم «أحمد شهاب الدين»، و»جابر حديد»، و»محمد المغربي»، و»حسين نجم» من أجل تغيير المنهج القديم الذي اعتمد على نظام الكتاتيب، ووضع مناهج أكثر موضوعية وحداثة تتعدى القراءة والكتابة والحساب. وكان لهم الفضل في تحديد معالم التعليم الحديث في الكويت وتنظيم السلم التعليمي.
كما كان للفلسطينيين دور بارز في نهضة كثير من القطاعات الحكومية المهمة في الكويت، مثل الجيش والشرطة؛ إذ ينسب إليهم مهمة تنظيم جهاز الشرطة الحديث في الكويت، وتأسيس الجيش الكويتي.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، نال الفلسطينيون بفضل كفاءتهم وقدراتهم الثقة لتمثيل الكويت في المحافل الدولية، حيث كان (طلعت الغصين) أول سفير كويتي في واشنطن، وكان (حسن الدباغ) أول سفير كويتي في لندن، وأصبح بعد ذلك سفير الكويت في سويسرا، وكان أول مندوب كويتي في الأمم المتحدة فلسطينياً. وعلى الصعيد النفطي، كان أغلب مهندسي النفط في بداية عهده من الجنسية الفلسطينية. وعلى الصعيد التجاري والاستثماري، كان الفلسطينيون مسؤولين عن إدارة استثمارات في الكويت تقدر بمليارات الدولارت، وساهموا في تأسيس كثير من الشركات المعروفة في الكويت ومساندة الاقتصاد الوطني الكويتي.
وهذا نزر يسير من سلسلة لا نهاية لها من الإنجازات المشرفة والمكللة بالنجاح. ولابد أن للفلسطينيين دوراً إيجابياً مماثلاً في جل الدول التي أقاموا فيها، إن لم يكن جميعها.»
وتواصل الأديبة أسماء القول: «نعم، احتل بنو صهيون فلسطين وسلبوا من أبنائها أرضهم وحرموهم من بناء وطنهم، لكنهم لم يستطيعوا منعهم من بناء كثير من الدول، والمساهمة في تقدمها وازدهارها، وتسطير قصص نجاح لن يمحوها الزمان. ولا عجب، فهكذا هم الفلسطينيون يسطرون دوماً أمثلة حية في العطاء، والبذل، والإنجاز، والقوة، والتأثير، وسيبقون يحتلون موقع الريادة بجدارة».
أعتذر منك قارئي الكريم، فقد أطلت، وها أنذا أهمس إليك باعتراف صريح لا لبس فيه، وهو أني أقف أمام حروفي الحيرى، ومفرداتي المتناثرة، والعجز يلفني إذ لم أجد في خزانتي المتواضعة ما يليق بتقديم الشكر لكل من: «الأديبة أسماء مبارك»، والأديب إبراهيم يوسف» و»الإعلامي طلال سلمان»، وجريدة السفير»، وكذلك أوثق عجزي عن تدوين ما يترجم مشاعر التقدير، والإجلال، والامتنان، والإكبار، لأولئك الأعلام من أبناء وطني الغالي فلسطين الذين بذلوا وقتهم، وجهدهم، ومالهم، وحياتهم، لتشييد مجد يشار إليه بالبنان.