كما كتبنا مرارا في صفحات جريدة الجزيرة الغراء فإن أصحاب القرار والخبراء والاستراتيجيين عليهم قراءة البيئة الدولية قراءة صحيحة لفهم الأدوات قبل أخذ القرارات،
ومفاتيح الفهم أمور صعبة إذا سبرها الاستراتيجي بعقل وحكمة ودراية ملك الحلول الآنية والمستقبلية وسهل عمل المخطط وأجهزة الدولة داخليا وخارجيا؛ وإذا تعثر فهمه أو خانته تحاليله ضاعت مصالح البلاد المستقبلية... والبيئة الدولية هي بيئة معقدة ويصعب قراءة معالمها فتختلط مستويات دراستها. ومنذ نهاية الحرب الباردة حذرنا كبير المنظرين الأمريكي جيمس روزنو في كتابه (اضطراب في العالم السياسي) من أية محاولة فكرية لاستقراء كلي للعالم باعتباره نظاما قابلا للتحديد والتعريف وهنا المشكل لعويص عند المختصين.
ولا أخال أحدا من المختصين في نظريات العلاقات الدولية يخالفني الرأي إذا كتبت منذ الوهلة الأولى أن مفاتيح الفهم للبيئة الدولية المعقدة هي هنا سوسيولوجية، ومن الحكمة بالنسبة للكثيرين تعبئة تيدجور أو جورج سميل بدلا من كلازفيتز. فالإرهاب العابر للقارات لا يمكن حله فقط بنظريات كلازفيتز وإنما بإعمال النظريات السوسيولوجية الحكيمة كما هي مثلا عند تدجور أو سميل.
إن كلمة الإستراتيجية تحمل في مدلولها اللاتيني Stratos أي الجيش و ageîn أي إدارة وتعني علم وفن إدارة مجموعة قوى الأمة في الجانب السياسي والحربي والاقتصادي والمعنوي لقيادة حرب أو إدارة أزمة أو الحفاظ على الأمن... وفي معناها العام توحي الكلمة إلى صياغة السياسة تماشيا مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصرا في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضا في المجالات الاقتصادية والإستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية، الخ.
فالإستراتيجية إذن هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والاستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالإستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفا.
فالبيئة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية للدول، أصبحت ذات طبيعة فوضوية ومعقدة، والعالم بدأ يتغير بسرعة فائقة، وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ والإحاطة بالآثار المرتقبة للوضع العربي والعالمي أمر صعب؛ ولكن صانعي السياسة في حاجة إلى وضوح الرؤية ليضمنوا إعادة تشكيل ما أسميه «البيئة الحامية للوطن»؛ وإن فهم هذه البيئة الجديدة ذات المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية - وحتى تتضح لنا الرؤية ونبتعد عن القشرة، أو الهامش، إن لم نقل النافل من الحدث - يتطلب الإلمام بالمنظومات الفرعية المتنوعة، وتبني سياسات أو استراتيجيات تركز بشدة على القشرة الحامية للدولة، والضامنة للاستقرار والازدهار.
فالإستراتيجية إذن هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والاستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالإستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفا.
وفي مؤلفه «الطبيعة والطبع» ميز كريكوري باتيسون بين نوعين من التصرف في مجال عدم اليقين وضرورة التأثير القويم فيه وذلك بالرجوع إلى مثالي الرمي بالبندقية والرمي بالسهم. ففرق بين الرامي الذي يعتد بجهاز التسديد من أجل الرمي، والرامي الذي يقوم بعملية الرمي بالاعتماد على التفاعل مع الهدف وتعديل عملية الرمي بناء على خط مسار الهدف. النوع الأول يعد من قبيل «المعايرة»، بمعنى تنفيذ برنامج معين، أما الثاني فهو «تفاعلي»، وهو عبارة عن إستراتيجية مبنية على مقاربات حسابية تتوخى الدقة حتى إصابة الهدف.
وكمرجعية تنظيمية، نجد أنفسنا أمام المرجعية السياسية التي تميز بين الحرب والسلم وتولي كلاهما الإمكانيات اللازمة، وتعد الاستراتيجيات الممكنة من حرب أو سلم بناء على الإمكانيات التي توفرها المرجعية السياسية.
أما المرجعية الإستراتيجية فهي التي تعتمد على اختيار وتوجيه وتحديد المعارك العسكرية أو الدبلوماسية من منطق حالة الحرب أو المفاوضات من أجل السلام التي تضعها المرجعية السياسية.
والمستوى العملياتي هو ما يرجع من اختصاص للقائد الحربي في الميدان.
أما المستوى التكتيكي فهو الذي يتم فيه اختيار وتوجيه وتحديد مجريات العمليات القتالية الممكنة في إطار معركة حربية. وكمثال توضيحي كان المارشال إورين رومل يراكم الانتصارات التكتيكية ليصل إلى الانتكاسة الإستراتيجية للنازية في معارك شمال إفريقيا والتي مكنت الحلفاء من الإنزال الميداني وغزو سيسيليا وإيطاليا، وبالتالي فتح الجبهة الثانية في أوروبا، حيث تم إنزال نورماندي في 6 يونيو 1944 في نفس يوم دخول الحلفاء إلى روما. انطلاقا من هذه اللحظة، وبينما هي بصدد معالجة تفاصيل عسكرية ميدانية، خسرت ألمانيا الحرب.
وبدون الأخذ بعين الاعتبار هذه المستويات التراتبية المتعلقة بإكراهات وارتباط مستويات «سياسية -إستراتيجية- تكتيك» ببعضها البعض، كانت بداية النهاية لألمانيا النازية، كما أعلن ذلك ولسون تشرشل بوضوح، والذي كان في نظره انتصار الحلفاء في شمال إفريقيا يشكل «نهاية البداية»، مع عمليات الإنزال في القارة الأوروبية. وانطلاقا من هذا المنظور أمكن لجورج كليمونصو القول إن: «الحرب مسألة من الجدية بمكانة تدعو لأن لا تترك للجنرالات».
وانطلاقا من طريقة الأداء، ميز كريكوري باتيسون بين «المعايرة» و»التفاعل» اللذين يرجعان بانتظام إلى تنفيذ برنامج معين أو إلى تنفيذ إستراتيجية. الطريقة الأولى عبارة عن تصرف يتمحور حول قواعد أداء معدة سلفا بمعنى مجموعة إعدادات جاهزة. أما الثاني فيتعلق بعمليات تصحيح بعدية متواترة.
ثم إن عمل الاستراتيجي يكون مختلفا عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يرتئيه الإستراتيجيون، أي أن مجال تدخله يبقى مرتبطا بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ هذا هو دوره؛ أما عمل الاستراتيجي فهو أهم من ذلك. فالحل العسكري عند الاستراتيجي مثلا ليس هو الغاية الوحيدة لتحقيق الأهداف العليا للوطن بل هناك وسائل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية ينهجها الإستراتيجيون للوصول إلى الأهداف المبتغاة... فالتدخل الفرنسي الأخير في مالي كان نتيجة قرار استراتيجي تبناه الإستراتيجيون الفرنسيون لتفاقم الأوضاع الأمنية في مالي، وتوالد وتكاثر الحركات الجهادية العابرة للأمصار والأوطان، وبداية تفكك الدولة المالية نتيجة لذلك وتعريض المصالح الإستراتيجية في المنطقة للخطر، وإمكانية انتقال العدوى إلى مناطق جغرافية موازية، وإمكانية نقلها إلى جنوب أوروبا مع عولمة التنقل وصعوبة تطويق الإرهاب العابر للقارات... فمن بين العشرات من الحلول الممكنة والتي كان بإمكان فرنسا أن تقدمها للحكومة المالية دون أن تتدخل - أي القوات الفرنسية- كإعطاء المعلومات الكافية عن تلك المجموعات تلتقطها الأقمار الصناعية وتكلف الجيش المالي بالتدخل، أو تزويد الجيش المالي بالدعم المالي وبالدعم اللوجستيكي من دبابات وصواريخ وطائرات... ارتأى الإستراتيجيون الفرنسيون التدخل عسكريا بإرسال قواتهم العسكرية إلى الميدان مصحوبة بكل أنواع العتاد لأنها أفضل وسيلة للوصول إلى الغاية المرجوة، وهو القضاء على تلك المجموعات الإرهابية، لهشاشة الدولة المالية وضعف جيشها وأمنها وحكومتها على السواء... وعند أخذ هذا القرار الاستراتيجي تدخل المخطط الفرنسي لتحديد أنواع الأسلحة التي يمكن استعمالها في مختلف المناطق وعدد الجيوش التي يجب أن ترسل إلى غير ذلك...