أقول وأكتب هنا مرة أخرى أن الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين خطر على الدين والدول والمجتمعات. الإسلام بخير والمسلمون بخير والذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار
في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. الأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. والزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يرونها هم أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة -داخل المجال السياسي- وهذه مصيبة أزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
وأعود وأتساءل هنا: هل يعاني المسلمون في الوطن العربي من اختلال في شؤونهم الدينية؟ أظن أن هناك نهوضاً بالدين الإسلامي في سائر مناحي الحياة سواء الخاصة منها أو العامة والشريعة والدين موجودان في مجتمعاتنا، قارن معي: فمنذ مجيء السيد عبد الإله بنكيران إلى قيادة الحكومة المغربية، هل تغيرت مسائل الشريعة والدين في المغرب؟ لا يحس المغربي من الناحية الدينية أي تغيير في عهد الحكومة الجديدة. لو جاءت حكومة أياً كان طيفها السياسي ومنعت إذا قدر الله إقامة الصلاة المكتوبة في المساجد لخرج كل المغاربة إلى الشوارع صغيرهم وكبيرهم لإزالة بطش الحكومة من كراسيها، فإذن تسمية الجماعات في بعض الأحيان بالإسلامية هي رديفة لما يسمي الآخرون أحزابهم بـ»الوطنية» أو «الأحرار» حيث لا يعني أن الآخرين كفار أو مارقون أو فجرة، فالكل يجد من شعاراته ما يقوي شعبيته ويزكي حضوره ويعطيه الشرعية الضرورية ويغنيه من ضرورة قطع المسافات لتجذير وجوده وتصويت الناس له في الانتخابات المحلية والوطنية، إلا أن المرجعية السياسية الإسلامية هي معين لا ينضب لشريحة كبيرة من الأحزاب، لأنها تخاطب المشاعر والوجدان وتحمل الخاص والعام على ركوب سفينة تلك الشعارات الرنانة والمعبرة لما في النفوس.
هذا كلام جميل. ولكن الطامة الكبرى أنه لم تستقر بعد في الأذهان والأخلاد أن الشريعة والدين ولله الحمد ليسا في خطر، بل هما بخير، ويكفيك الذهاب إلى مساجد كل الأمصار العربية لتتأكد بنفسك. ولكن الذي يمكن أن يكون في خطر هو إدارة الشأن العام، وهذه الإدارة تحتاج إلى مسيرين أكفاء، وإلى رجال ذوي خبرة ومكانة تجعلهم على علم بقواعد التسيير وطبائع الأمور واختلاف الأشياء وتداعياتها. وعلى إحاطة بالحاضر من الأمور ومماثلة ما بينها وبين الغائب من الوفاق أو دون ما بينها من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف، خاصة وأن الظرفية الاقتصادية والجهوية والعالمية لا تحتاج إلى أدنى خطأ في أخذ القرار وترصد مكامن الخلل والزلل، ويذهل الكثير من الناس عن هذه المسألة المصيرية.
إن الالتزام بالذكاء والدبلوماسية السياسية والاحتكام إلى قواعد العقل السليم في دول كمصر وتونس وليبيا والعراق وخلق الثقة بين الحاكم والمحكوم بعيدا عن التحجر السياسي والبلاهة السياسية والجهل السياسي. وأظن أن ذلك هو الحكمة والحكمة هنا هي العلم الصحيح الذي لا يقبل الخطأ (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) وهو ليس فقط في مجال الاقتصاد والاستثمار وإنما أيضاً في مجال العلوم الإنسانية وبخاصة في مجال العلوم السياسية، وهذه الأمور خلال الفترات الانتقالية للشعوب لا تقبل الخطأ وإلا أودت بالبلاد والعباد إلى مستنقع غير منته من الظلمات والصراعات وتتوقف هياكل الدولة رويداً رويداً اقتصادياً واستثمارياً واجتماعياً بل وثقافياً وهذا طبعاً نقيض الحكمة وعنوان التخلف ومسؤولية تجاه التاريخ وتجاه الخالق عز وجل... فما ذنب الملايين من المصريين والتونسيين الذين يزج بهم في صراعات كان بالإمكان تفاديها، وأخطاء علمية لا تقبل بها العلوم السياسية، ولو طبقت دروس هذه العلوم لنجا الجميع...
فأملنا كان ولا يزال في أن يتشبث من أوصلتهم الأقدار اليوم إلى سدة الحكم الالتزام بقواعد العقلانية وأن يكون نكران الذات والتفكير ملياً قبل الإقدام على قرارات مصيرية هو الأساس الذي تبنى عليه القرارات... وهذا يتطلب أناساً أكفاء وذوي خبرات وبُعد نظر مثالية... وهذه المرحلة أصعب من المراحل السابقة، لأن التحول السياسي إذا لم تثبت أركانه فقد يتحول إلى ضامر عرجاء لا يمكن الركوب عليها ويستحسن أكلها في ظل الأزمة المالية الخانقة... وقد تصل المجتمعات إلى سلطوية أخرى عاتية وإلى انفلات أمني غير مسبوق «ترى القوم فيه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية»... هذا هو تخوفي إذا لم يلتزم بناة بلدان ما بعد انهيار ممثلي أعمدة الأنظمة السابقة بالحكمة... وعلى الجميع أن يفكر في هذا الكلام بعناية ودراية وعلمية كبيرة... ولا يظن ظان أن النتائج التي أعطته صولة الحق تكفيه... فينبغي خلق الثقة بين صاحب الحكم والمحكوم بدل الارتماء في الثقة الشخصية الزائدة عن الحد...
وكل متتبع للشأن العربي والمصري بالخصوص، يرى أن العديد من الفاعلين الجدد والقدامى في المجال السياسي العام يستعملون الدين والشعارات المتعلقة به ليس لتدبير الشأن العام وإنما لاستكمال الاستيلاء على السلطة وإدارة الشأن العام.
فبالله عليكم، هل هذا ما تحتاجه مصر اليوم؟ كلا وألف لا... إن ما تحتاجه هو أسلوب جديد وأفكار جديدة في تسيير الشأن العام وإدارته وتوفير رغيف الخبز الكريم لكل شرائح المجتمع وتحقيق التنمية الدائمة.
وهذه الحالة لو استمرت لأنذرت بمستقبل سيئ وغامض وخطير، حيث يتهاتف المتهاتفون على مشاكل تكون الشعوب في غنى عنها وبالأخص إذا كانت ذات لون ديني أو إيديولوجي مدوٍّ...
إن العالم العربي في حاجة إلى مليونيات شعارها النهوض بالتربية والتعليم وشعارها النهوض بالمدرسة والمدرس... الدين بخير في أوطاننا العربية...؛ فالدين والشريعة مطبقان ولا ينقصنا شيء في الدين.. إن الذي ينقصنا في هذه الفترة الحاسمة هو إدارة الشأن العام وإصلاحه وعلى رأس أولوياته قطاع التربية والتعليم... والثورات العربية لم تقم من أجل تطبيق الشريعة لأن الشريعة بخير وإنما قامت لإصلاح ما اعوج في السيرورة التنموية والاقتصادية والمعرفية في أوطاننا...
والمظاهرات يجب أن تنتقل في الحين من الرغبة في «الإسقاط» و»استغلال الدين في السياسة» إلى الوعي الصحيح «للإصلاح»، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييراً جذريّاً في بناء اقتصادي قوي؛ كما تكون السياسة التنموية تعبيراً عن آراء المواطنين واستجابة لحاجاتهم، وأما آن الأوان لكي يفهم الجميع خطورة الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين والاشتغال بأولويات المرحلة؟!