الأحد ما قبل الماضي 22-3-2014 م عمدت على غير عادتي إلا فيما ندر قبول دعوة سفارة إنجلترا إلى لقاء يضم تريزا ماي وزيرة داخلية بريطانيا. وسأعود لتفاصيل ذلك اللقاء لاحقا ولكن بودي أن أستهل المقال بتوضيح صغير, ليس حرجا من أحد ولا رفعا لعتب،
ولكن حرصا على مشاركة قرائي في مواقفي أيا كانت, وذلك من منطلق الترابط التواشجي الذي أراه بين أمانة الموقف وأمانة الكلمة. فكما أن الكاتب يثمن حريته بكلمته فإنه يثمنها بمواقفه. فما الحياة لأي كاتب حر إلا كلمة وموقف. والحقيقة أنه رغم سيل الدعوات التي تصلني لشتى أنواع الفعاليات من مختلف القطاعات الفعالة على الساحة المحلية بما فيها القطاع الدبلوماسي, فإنني شديدة الضن بوقتي وصحتي, ما لم تكن الفعالية من وجهة نظري تستحق. وعندما يتعلق الأمر بدعوة من السفارات خاصة تلك التي لها تاريخ من علاقات الهيمنة أو من علاقات الشد والجذب بينها وبين وطني أو بينها وبين قناعاتي، فإن حواس استشعاري تكون أشد توجسا وأكثر حذرا. فلا ألبي دعوة لمجرد المجاملات الدبلوماسية. كما أني لا أقبل الحضور لأي لقاءات بأي كان ما لم تكن شخصيات عامة معروفة في مجالها السياسي أو الثقافي وما لم يكن هناك موضوع محدد يشكل اهتماما من اهتماماتي الثقافية أو قضية رأي عام تجعلني أجد في المناسبة مساحة لنقل وجهة نظري المستقلة ككاتبة رأي تعبر عن آراء قد لا تطرح في الإطار الرسمي للعلاقات الدبلوماسية والسياسية أو حتى قد تختلف معها وتسكت عنها. ففيما قد يجد المسؤول الرسمي نفسه مضطرا للامتثال لمقتضيات البرتوكول الدبلوماسي، فإن كاتب الرأي يجد نفسه في حل من تلك المقتضيات الوظيفية وأن التزامه أولا وأخيرا أمام ضميره وطنيا وإنسانيا. على أن هذا الموقف بعدم القطيعة التامة يعتبر موقفا متسامحا بالمقارنة لمواقفي السابقة الأقسى تشددا والتي كانت تعتبر أن مجرد إقدام سفارة ما خاصة من دول النفوذ العالمي على توجيه دعوة لي لحضور فعالية هو نوع من الاجتراء على وطنيتي وعلى استقلاليتي. غير أنه إذا كانت المواقف المبدأية في البديهيات والأساسيات الضميرية لا تتبدل, فإن المفاهيم السياسية وليست الأساسية عرضة دائمة للتبدل وللتحولات. فمثلا قد لا يختلف اثنان على أن الوطنية من الأساسيات الضميرية ولكن تعريف مفهوم الوطنية هو تعريف متحرك فبينما يكون من الخيانة العظمى التفاوض مع عدو في حالة ضعف لن تقود إلا للتنازلات, فإن من الوطنية مقاومة العدو ولو بإمكانات محدودة بدل الاستسلام. وبالمثل فبينما كانت السفارات خاصة لدول الهيمنة ليست إلى محاضن بواجهة نظيفة لكثير من عمليات الاستحواذ وتدابير التأليب إن لم يكن «التآمر» كما كان الأمر ما قبل الحرب العالمية الأولى إلىما بعد برود الحرب الباردة ولا أقول انتهاءها بدليل ما نشهده من توتر علاقات أساطينها القدامى, فإنها وإن لم تتخلى عن تلك الوظيفة، لم تعد تخلو من تلك المساحة المحايدة التي يمكن أن تتسع لحوار بين الأطراف وإن كانوا من الأضداد. ونظرا لأنه لا بد من الانتباه إلى أن تلك المساحة المحايدة قد لا تكون محايدة إلا بقدر نسبي ضئيل، فإن من المهم عدم الدخول إليها بغير شرط الحرية والاستقلال لما يطرح. كما أن من الضرورة عدم التنازل عن ألا يكون الدخول إليها إلا لتوصيل وجهة النظر النقدية وعدم المجاملة في المواقف المبدأية من مشاريع الهيمنة مع عدم القبول بأي مقابل لا ماديا ولا معنويا بتاتا وبرفض قاطع مانع. وبالنسبة لي شخصيا فقد كان هناك بالإضافة لحرصي الشخصي على التمسك بكل ما تقدم في المواقف التي قبلت فيها اللقاء بوفود صحفية أو أكاديمية أجنبية كان هناك الحرص على إزالة مظنة اللبس وتصحيح الاستيهام بأن من ليس مع الإسلام السياسي وليس مع التشدد فإنه بالضرورة مستعد للسير في ركاب دعاوي الديموقراطية الغربية بعلاقتها السلطوية الفوقية مع المنطقة, إن لم يكن راضيا عن سياسة قوى التدخل الخارجي والاستحواذ.
بهذه الرؤية كان من الصعب قبول دعوة السفارة البريطانية لحضور لقاء مع وزيرتهم للداخلية دون جدل ذاتي عنيف. فضيفة اللقاء لا تعمل في مجال الصحافة أو الثقافة بل إنها وزيرة دولة؟ وهي ليست وزيرة لأي حقيبة وزارية مجتمعية بل لوزارة تعرف بصفتها ووظيفتها الأمنية. وقد تساءلت بدهشة إبان استلام الدعوة «تعني دعوة للقاء يخص وزارة الداخلية لا وزارة الثقافة وأضفت مستعجبة ولا المرأة». بحسب قناعاتي كان الطبيعي أن أعتذر عن اللقاء على القليلة لعدم توافق التخصص والاهتمام إن جاز التعبير, لكن رياح فضولية عصفت بي لأعرف لماذا يخطر لوزيرة داخلية أن تلتقي بمجموعة من الشخصيات السعودية النسوية العامة.
هل هناك رسالة أمنية ما من بلدها تريد أن توصلها إلينا, ما الذي تريد أن تعرفه عنا كنساء وما الذي تريد أن تستفهمه منا. لا شك أنني استمديت السؤال الأخير من خبرة سابقة في لقاءات سابقة مع صحفيين أجانب وبعض السياسيين. فلا زلت أذكر يوم خرج بالصحيفة الأمريكية لوس انجلس بوست مانشيت عريض عشية إعلان حرب واشنطن على بغداد 2003 يقول: (كاتبات سعوديات يعارضن حملة الأمل الأمريكية على العراق ويرين فيها عودة للاحتلال العسكري). كما لا زلت أذكر إجابتي في وفد من الكلية الحربية الأمريكية وعدد من أكاديمي جامعات أخرى حين تساءل بعضهم ماذا يمكن أن تقدم أمريكا للمرأة السعودية، فقلت ببساطة لا شيء سوى أن توقفوا الحرب على المنطقة باسم محاربة الإرهاب أو باسم تصدير الديموقراطية ولا تعينوا على شعوب المنطقة.
بالحي الدبلوماسي كانت السيدة تريزا ماي وعدد من الزميلات والصديقات قد بدأن الحديث حين وصولي. قدموني لها شاعرة وأكاديمية فأضفت ومحاربة وقبل أن يزيد اتساع بؤبؤيها الزرقاويين، أوضحت محاربة بمعنى المقاومة وليس بمعنى الإرهاب إذ أننا هنا وبالذات النساء نجد فرقا نوعيا بين الاثنين. بتلك الضحكات المشتركة التي أثارها التعليق، دخلت حلقة اللقاء. كنت في البداية مستمعة وكان الحديث كالعادة مع الوفود الأجنبية بمبادرة منهم ينصب على أحوال النساء السعوديات. وكأننا في النظرة الاستشراقية النساء الوحيدات في العالم اللواتي على رأسهن الطير.
والحقيقة أن بعض الزميلات استمتن بإخلاص ووفاء وطني في الحديث عن أحوال النساء وعن التقدم الذي أحرزته المرأة السعودية كمهنية وكشورية خاصة في عهد الملك عبدالله. وبما أنه كان منهن شوريات فقد تطرق الحديث لكون وزيرة الداخلية نفسها بحسب قوقل وويكيبيديا وبما أكدته السيدة تريزا كانت هي نفسها برلمانية قبل أن تلتحق بالحكومة كوزارية.
وحين أردت الحديث شاركت بالنقطة التي كانت تشغلني وهي ما الذي يدفع وزيرة داخلية أن تطلب اللقاء بكاتبات وشوريات وهي في زيارة رسمية لها صفة المباحثات الأمنية.
أبدت الوزيرة تثمينا لصراحة السؤال وإن قالت لي إحدى الحاضرات من الوفد إنها تفاجأت بمباشرة السؤال. وعرفنا من الإجابة أنها زيارتها الأولى إلى المملكة وكان يهمها أن تكون الزيارة كما قالت فرصة للقاء السعوديين رجالا ونساء من العاملين في المجال ولكن لما كان ذلك متعذرا، فإن الطريقة الوحيدة التي كانت متاحة لها لتلتقي بنساء كان عبر ترتيب لقاء بسيدات سعوديات مهنيات في مجالات ذات صلة بالمجتمع كالكاتبات والشوريات. ومما أوضحت به أسباب حرصها على لقاء نساء سعوديات قولها إنها عملت أيضا في وزارة المرأة ببريطانيا وهي وزارة تحمل اسما موحيا «وزارة المرأة والمساواة» وقد أنشئت كوزارة للمرأة في العهد الأول لرئيس الوزراء توني بلير ثم جرى توسيع مجالاتها الحقوقية وتغيير المسمى إبان رئاسة جوردن براون لمجلس الوزراء البريطاني.
علقت سيدة من الزميلات بأنها لا تؤيد أن يكون هناك وزارة خاصة بالمرأة لأنه بحسب رأيها قد يؤدي لعزلة القضايا النسوية عن السياق العام للمجتمع غير أن نقاشا وإن كان مقتضبا دار حول ولادة مثل هذا التوجه الجديد في إطار تنظير ما بعد الحداثة الذي يرى ضرورة إعطاء كل ذي حق حقه وعدم تمييع حقوق الفئات التي واجهت تميزا تاريخيا مثل النساء في الخضم العام.
غير أن الحديث عاد ليدور عن طبيعة الزيارة حيث تحدثت الوزيرة عن تركيزها على التعاون الأمني في مجال محاربة الإرهاب, بما طرح سؤال تشكيكي في مدى كفاية الحل الأمني. وهنا قاربت الشهر زادت على الامتناع عن الكلام المباح لينتهي حديث اللقاء بالتأكيد على أن الحل الأمني لا يشكل إلا علاجا استباقيا أو إلحاقيا للمشكلة كظاهرة ليس إلا. أما الحل الجذري فإنه يحتاج لأبعد وأعمق من الحلول الأمنية وذلك لا يكون إلا بعدم تجنب الأسئلة المحرجة في أسباب الإرهاب وبمواجهة الدوافع المحرضة عليه سواء في العقلية أو في الواقع أو في الحرمان السياسي من شرعية المشاركة من ناحية وفي الشرعنة السياسية والتستر الاجتماعي على الإرهاب كفكر مع تشديد القبضة على محاربته أمنيا كفعل عندما يبدأ خطره متماسا مع المؤسسة الرسمية. كان الحديث عن الأمن الفكري والسلم الأهلي وميزان العدل العالمي ذا شجون ولكن كان معظمنا بما فينا الوزيرة قد جاء إلى اللقاء بعد يوم طويل من عناء العمل ولا يزال أمامنا واجبات أسرية أهمها قضاء بعض الوقت مع الأسرة قبل أن يفرقنا سلطان النوم. توادعنا بعد أن امتد الحديث طويلا عند الباب وكانت تلويحة ختام الزيارة أن النساء الأقوى شكيمة للعمل على تحقيق السلام على الأرض.