كان من أنظمة كلية لويس اندكلارك الاجتماعية والتي لا أعتقد أنها كانت مكتوبة «نظام العائلة الطلابية المضيفة». وهذا يختلف عن نظام العائلة الطلابية الأوروبي وعلى وجه التحديد الإنجليزي. فبينما يختصر ذلك النظام في أوروبا كما خبرته من خلال أشقائي بالثمينيات وأبنائي حديثاً في علاقة معيشية «وظيفية» إن صح التعبير،،
حيث يعتبر الطالب مستأجراً لغرفة عند عائلة من مواطني بلد الدراسة, تقوم فيه العائلة بأدوار محددة في حياة الطالب قد تقتصر في الغالب الأعم على توفير المأوى ووجبتي طعام وبعض الدعم اللوجستي, وغالباً ما يجري ذلك كما في أوراق محمد الداود الطلابية المعبرة عن تجربته الدراسية القريبة بنيوزلاندا بقدر محدود من التفاعل، فإن نظام العائلة الطلابية المضيفة من خلال تجربتي البعيدة القريبة ببورتلاند أوريجن مختلف عن تلك العلاقة الوظيفية شكلاً ومضموناً.
فعلى الرغم من أن النظام قد جرى تبنيه بكلية «لويس اندكلارك» كما فهمت لاحقاً ليحل مشكلة إقفال السكن وخاصة في الإجازات الطويلة, حيث ينتقل من يشاء من الطلاب وخاصة ممن يقطنون السكن الجامعي للسكن مع عائلة مضيفة إبان العطل، فإن عدم إلزاميته من ناحية وعدم نفعيته حيث تكون إقامة الطلاب مع العوائل كضيوف وليس كمستأجرين أعطى روحاً بالغة الحيوية لذلك النظام.
وهذا الرأي لم أكونه فقط مما لاحظته في تجربة عدد من زملاء تلك المرحلة ولكنني كونته من معرفة مباشرة بل لصيقة ومن معايشة يومية حميمة لعلاقة عائلية يمتد اليوم عمرها لأكثر من ربع قرن بيني وبين عائلتي الأمريكية المضيفة.. فمنذ تلك الظهيرة الأحدية البعيدة المباركة نهاية السبعينات التي تعرفت فيها على شيرلي وجون نيومن وأولادهما الثلاثة باتريك ومارك وركي وبنتهما ستيفني الذين كانت أعمارهم تتراوح بين العشرين وما دون العشرين إلى اليوم الذي أكتب فيه هذه السلسلة لتجربتي الدراسية بأمريكا لم تنقطع صلتي بهم ولا صلتهم بي قط أنشغل وينشغلون ولكن نعود كأن لم نغب عن بعض إلا يوم أو بعض يوم وكأنها لاتفصل بيننا قارات واختلافات حضارية لنواصل الحديث من حيث أنتهى.
لقد أصبح أولئك الشباب وقتها إخوتي المقربين جداً وقد تقاسموا معي بود جارف أبوة جون الحازمة الحنون وأمومة شيرلي الحقيقية الدافقة الطاغية التي أمتدت ككروم سخية لي ولأصدقائي ولعبدالرحمن أخي الصغير فيما بعد ولأفراد من أسرتي السعودية في فترات متلاحقة وأقربها استضافتهم لي ولأبنائي إبان سنة تفرغي البحثي ببيتهم ببورتلاند عام 2010 واستقبالهم لشقيقيي حسناء وصغيرها أحمد العام الماضي.
ولم أكن الطالبة الوحيدة التي انضمت إلى عائلة النيومن بل أنضم معي ثلاثة طلاب آخرون. الأول كان محمد العُماني وهو طالب من مسقط يدرس العلوم السياسية ويحاول أن يداوي بها جروحه الخضراء جراء تجربته الغضة بثورة ظفار في مطلع عمره. الثانية سيلينا وهي طالبة من البرازيل تدرس تخصصين معاً وإن بدا متنافرين وهما تخصص كيمياء عضوية وتخصص تربية بدنية، وقد كانت أيقونة ممشوقة من جمال روحي وجسدي ضاج يصدر ذببات من المرح والحيوية كيفما تحركت.
أما الطالب الثالث الذي أنضم معي إلى عائلة نييومن فقد كان خوسيه.. وقد كان طالب لغة من المكسيك والحقيقة أنني لم أستطع التعرف عليه عن قرب رغم تآخينا في نفس العائلة لمدة فصلين دراسين قبل أن ينتقل لجامعة أخرى بولاية أخرى. وكان ذلك التجاور استثناء في علاقات الأخوة العميقة التي تنامت بين هذا الخليط الحضاري في العائلة المضيفة وامتدت عدة عقود فلازلت على صلة متقطعة بأولئك الطلاب الذين انضموا معي لعائلة النيومن الفصل الأول من وصولي إلى بورتلاند, ولازلت على علاقة لم تتوقف قط مع النيومنز بل توارث تلك العائلة أبنائي مع أبناء شباب الأسرة.
لا زلت أذكر لقائي الأول بعائلتي المضيفة (هوست فاميلي) في ظهر يوم أحدي من شهر آذار. كنت قد عقدت شعري الفاحم ضيفرتين تعدت خصري بماكنا نسميه ضفيرة السنبلة كرمز في اللاوعي لهويتي وربطهما ببكلات تركواز تتناسب مع لون فلينتي الصوفية ذي الياقة العالية وبتطلون الجينز الكالح وحذائي الطبي الأبيض. وكانت ماما شيرلي ولم أكن قد بدأت اناديها بماما بعد, سيدة في أوائل الأربعين، تبدو بشعرها البلاتيني المموج القصير وبلوزتها الستانية ذات اللون العاجي وبقدها المشوق وابتسامتها الصاخبة شديدة الشبه بمارلين مانرو. وكان «داد جون» ولم أكن قد قررت أن أناديه بعد بنداء الآباء بأمريكا «داد» رجل خمسيني شديد الشبه برئيس الولايات المتحدة اللاحق ريجن وكان ممثلاً قبل أن يصبح رئيساً.. وبما أن «الأصول القريبة» و»ليس الماقبل أمريكية» لعائلتي الجديدة تعود إلى ولاية كالفورنيا فقد كان سهلاً استيهام شبههم بممثلين هولييود لدرجة أن أخي الصغير عبدالرحمن بعد أن عدنا إلى الوطن وقد أصبح شاباً عندما بزغ نجم ليناردو دي كبريو, كان يناديني بحماس ليقول لي الاتظنين أن ليناردو يشبه أخونا مارك. على أن هذا الأمر ظل موضوع للضحك في ملح وخبز العلاقة العميقة التي جمعتني وجمعت أصدقائي الطلاب من جنسيات متعددة وعائلتي الأصلية السعودية بعائلتي الأمريكية المضيفة وأبناؤهم وأصدقاؤهم. والحقيقة أن علاقة طالبة سعودية تدرس بأمريكا بصحبة أخيها الصغير (أول ابتدائي) بتلك العائلة الأمريكية المضيفة في تلك الفترة تستحق التسجيل لجوانبها الوجدانية والاجتماعية والسيسيولوجية, خاصة وأنها من جانبي لم تكن نابعة من إحساس بالحاجة أو الاغتراب فلم أكن أتحرك طوال فترة دراستي بأمريكا إلا بكتيبة من الزملاء والزميلات والأصدقاء من مختلف الجنسيات، وكانوا محط ترحيب دائماً من شارلي وجون وأولادهما لنزورهم ونقيم معهم ماطاب لنا المقام أيام الإجازات في بيتهم الكبير بحجراته المتعددة الواسعة وبحديقته الخلفية الأشبه بغابة بمنطقة «تايقر». والملفت من جانبهم في العلاقة أنه كان لديهم سرب أبناء وبنت ولم يكونوا في وضع يعانون فيه من الوحدة كما أنهم سناً كانوا في عز النضج ولم يصلوا بعد لمرحلة المعاناة من صقيع العمر.
ففي ذلك اللقاء الأول بهم في صالة الاستقبال بالمبنى السكني «أوديل هوول» الذي كنت أقيم به داخل الحرم الجامعي بلويس أند كلارك، شهقت حين علمت أن شارلي تعمل في مجال العقار وقد كانت نفس مهنة أبي عبدالله أبو خالد بمكتبه المسمى مكتب دخنة العقاري بجدة, وإن كنت لم استغرب حين علمت بمهنة جون في مجال لعبة الفوتبول الأمريكية. غير أني شعرت بنوع من الاستغراب وقد علمت أن الأبناء ممن أنهو الثانوية مثلي (الهاي سكوول) لم يتجهوا للدراسة الجامعية بل اتجهو اتجاهات مهنية. وقد ظننت في حينها أن الأسرة قد اختارت استضافة طلاب جامعيين بدافع تشجيع ابنائهم عبر الاختلاط ببيئة الجامعة إلا أنه سرعان ما أتضح خطئي في هذا الظن, فلم ألحظ أنهم يعيرون الأمر كبير أهمية. كانت علاقتي بهم في بدايتها وعدد من زملائي العرب خاصة لا تخلو من الاستفزاز الذي لاشك أن «ماما شارلي» بالذات وهي رأس المال الأكبر في علاقتي بعائلتي المضيفة، قد صبرت عليه كثيراً. فرغم حبل الود الإنساني الجميل الذي ربطني بهذه العائلة والذي توطد عبر عقود من الصداقة فقد كنا ننظر إليهم أنا وعدد من زملاء منظمة الطلبة العرب في عمر النزق وقتها بشيء من النقد اليساري الطفولي المتطرف فنناكفهم على أنهم عائلة برجوازية أرستقراطية بيضاء. كما كنا لانألو جهداً في الشرح والتوضيح لإدانة سياسة «الهيمنة الإمبريالية» للإدارة الأمريكية تجاه العالم الثالث ككل وتجاه القضايا العربية. ولم يخل الأمر من هجوم وهجوم مضاد في أوقات ذروة احتدام النقاش إلا أنه لم يكن كافياً للمساس بحبل الحب والحنان المتبادل في العلاقة بيني وبين تلك العائلة المضيفة.